أصوات من الجنوب وصدى من الشمال انحياز الخوارزميات، اختلال الصوت، ومعركة العدالة الرقمية

تحقيقات

أصوات من الجنوب وصدى من الشمال  انحياز الخوارزميات، اختلال الصوت، ومعركة العدالة الرقمية
100%
نرمين مظهر لطالما وُصِف الفضاء الرقمي بأنه الحيّز الجديد للديمقراطية، الساحة العالمية المفتوحة التي تذوب فيها الفوارق الجغرافية والاجتماعية، ويتساوى فيها الفرد مع المؤسسات، والمهمّش مع المهيمن، والعربي مع الأوربي. غير أن هذا الوصف، الذي بدا يوما ما واعدًا، صار مع الوقت أقرب إلى صورة مثالية متصدعة، تنعكس من خلالها اختلالات العالم الواقعي، لكن بطرق أقل وضوحًا وأكثر تعقيدًا. أسئلة يمتلك الجميع، ظاهريًا، المنصة ذاتها: حساب على فيسبوك أو إنستغرام أو إكس، او غيرها من مواقع التواصل الاجتماعي، يُكتب فيه ما يشاؤون، وتُنشر صور وفيديوهات وأفكار. لكن ما لا يظهر على السطح هو ما يقرّره (الذكاء الاصطناعي) في الخفاء: من سيُسمع صوته؟ ومن سيُدفع إلى الهامش؟ من يُضخَّم حضوره؟ ومن يُقلّص حضوره بلا تفسير؟ هذه الأسئلة، التي بدت افتراضية في بدايتها، باتت تؤثر اليوم على يوميات ملايين المستخدمين، خصوصًا في الجنوب العالمي، الذين يشعرون بأن الفضاء الرقمي لم يكن يوما منصفًا، بل أعاد إنتاج التراتبية القديمة بطريقة جديدة، أكثر أناقة وأقل شفافية. لنبدأ من دافوس في الثامن من آذار 2025، ناقش منتدى دافوس الاقتصادي مستقبل الديمقراطية الرقمية. وقال رئيس وزراء إسبانيا، بيدرو سانشيث، أمام الحاضرين: "لسنوات كنا نظن أن وسائل التواصل الاجتماعي ستمنحنا حرية تعبير أوسع، لكنها أصبحت أدوات تقويض تُعمّق الانقسام." ودعا إلى كشف خوارزميات النشر، وربط الحسابات الرقمية بالهوية الوطنية لضمان الشفافية والمحاسبة. لم يكن تصريحه معزولًا، بل مثّل تحوّلًا عالميًا في التفكير تجاه التكنولوجيا، ولم تعد تُنظر إليها كوسيلة تحرر، بل كمنظومة معقدة تعيد إنتاج السيطرة والمعرفة والنفوذ. الخوارزميات و"سلطة التصفية" تجاوزت المنصات الكبرى (فيسبوك، تيك‌توك، يوتيوب، إنستغرام، وإكس) كونها أدوات تواصل، وصارت أقرب إلى بنى تحتية رقمية تتحكم بما نراه ونسمعه ونُعجب به. تُدار عبر خوارزميات مصممة لتحليل السلوك البشري وتغذيته بمحتوى يضاعف التفاعل، حتى لو كان مضللًا، مثيرًا، أو مكرّرًا. لا يعرض عليك ما تحتاجه، بل ما يجعلك تبقى أطول. يقول غويوم تشاسلو، المهندس السابق في اليوتيوب ومؤسس مبادرة (شفافية الخوارزميات - AlgoTransparency)، إن "الناس يظنون أن الخوارزميات تقدم لهم ما يريدون. لكنها في الحقيقة تبحث عن ذلك الممر الضيق الذي يُشعل انتباهك… وتعيدك إليه مرارًا." هكذا تتحول الخوارزميات من أدوات تنظيم إلى أدوات تشكيل، تتحكم في أولويات المستخدمين بطريقة غير مرئية. أصوات من عالمنا تصاعدت الأصوات من داخل المجتمع الرقمي، ومن بين الحقوقيين العرب والفلسطينيين، إلى وجود تحيز واضح في خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي التي تستهدف تقييد وانتقاء المحتوى الداعم لقضية غزة، الأمر الذي يعكس صورة أوسع لفجوة العدالة الرقمية في العالم. في هذا السياق، توضح الناشطة الفلسطينية والباحثة في مجال الحقوق الرقمية، أفنان كناعنة، أن شركات التكنولوجيا الكبرى تلعب دورًا فعالًا في فرض سياسات الحجب والرقابة التي تحول دون وصول صوت الفلسطينيين إلى الجمهور العالمي، ما يعزز حالة العزلة الرقمية لغزة ويقلل من فرص إيصال الرواية الفلسطينية. في المقابل، يؤكد نديم ناشف، مدير منظمة (حملة) الفلسطينية لحقوق الإنسان، أن التقييد الممنهج للبنى التحتية الرقمية في الأراضي الفلسطينية، وخاصة في غزة، يمثل شكلًا من أشكال الإقصاء السياسي والاجتماعي، إذ يؤدي إلى تقليل جودة وسرعة الإنترنت المتاحة، ما يعيق التعليم والعمل والتواصل المجتمعي. ويضيف ناشف أن "هذا الإقصاء الرقمي يمثل استمرارًا لسياسات الاحتلال التي تستهدف عزل الفلسطينيين رقميًا، ما يستدعي ضرورة تدخلات تقنية وسياسية عاجلة لتوفير إنترنت عالي الجودة وضمان حرية التعبير والعدالة الرقمية." تُجسد هذه التصريحات حالةً واضحة للتحديات التي يواجهها الفلسطينيون خاصة، والعرب عامة، في فضاء رقمي يتسم بالتفاوت والرقابة الممنهجة، ما يدعو إلى مراجعة سياسات الخوارزميات التي تحكم المحتوى الرقمي، وتفعيل مبادرات تدعم الحريات الرقمية وتمكين الأصوات المهمشة على الشبكة العالمية. تقول مروى فطافطة، مديرة السياسات الإقليمية في Access Now، في مقال على الموقع، إن "المنصات تخضع قانونيًا للولايات المتحدة، لكن رقابتها سياسية لا تقنية. هناك تقييد للمحتوى العربي دون أي تفسير معلن." وتضيف أن "الصوت العربي غالبًا يُعامل كمحتوى هامشي، وليس كمصدر للرأي والتأثير." تأكيد صحفي وفي تقرير نشرته صحيفة الغارديان، وثّقته الصحيفة بتاريخ 15 أغسطس/ آب 2024 يؤكد ما أشار إليه ناشطون فلسطينيون وعرب حول التمييز الخوارزمي بحق المحتوى المناصر لفلسطين. فقد أظهرت الوثائق الداخلية لشركة Meta أن المحتوى العربي، خاصة المرتبط بغزة، يخضع لرقابة صارمة، في حين يُترك المحتوى العبري دون مراجعة موازية بسبب غياب أدوات رقابة مكافئة. هذا التفاوت لا يعكس خللًا تقنيًا فحسب، بل يكشف عن تحيّز بنيوي يُسهم في إسكات الصوت الفلسطيني رقميًا، ويعزز دعوات إعادة النظر في سياسات المنصات العالمية من منظور العدالة الرقمية أصوات من عالمهم تتعالى أصوات، حتى من داخل (وادي السيليكون)، لتحذر من تصميم هذه المنصات. قال تريستان هاريس إنه "من يملك الانتباه يملك القوة." يضيف هاريس، وهو خبير أخلاقيات التصميم السابق في غوغول، ومؤسس مركز التكنولوجيا الإنسانية في مناقشة لقضايا التكنولوجيا والأخلاق، أن "الخوارزميات لا تعكس إرادة الناس، بل ما يجذب أعينهم." ويشير إلى أن "المنصات تصمم للإدمان لا للنقاش، وللتفرقة لا للتعدد." فيما تقول رينيه دي ريستا، الأستاذة والكاتبة ومديرة الأبحاث السابقة في مرصد الإنترنت في جامعة ستانفورد، إن "أكثر المنشورات انتشارًا ليست الأكثر أهمية، بل الأكثر إثارة أو صدمة." وإن "الخوارزميات تكافئ الانقسام والتضليل لأنها ببساطة أكثر ربحًا." كيف نعيد التوازن؟ هناك العديد من الحلول التقنية والتشريعية التي طُرحت لإعادة التوازن إلى الفضاء الرقمي، من أهمها مشروع (شفافية الخوارزميات -AlgoTransparency) الذي أطلقه الباحث غيوم تشاسلو، المهندس السابق في اليوتيوب، الذي يسعى لكشف كيفية ترويج الخوارزميات للمحتوى المتطرف، ويطالب بجعلها شفافة وخاضعة للمراجعة العامة. وهناك (قانون الخدمات الرقمية الأوروبي - DSA) الذي أقره الاتحاد الأوربي عام 2023، الذي يُعد نقلة مهمة، إذ يُلزم المنصات الكبرى بتوضيح أسباب عرض المحتوى، ويفرض رقابة مستقلة وغرامات في حال الإخلال. أما على صعيد المقترحات المستقبلية التي يتداولها خبراء التقنية والسياسات الرقمية، فتشمل (تشريعًا عالميًا يعتبر المنصات مرافق عامة)، وطرحه عدد من المفكرين مثل الباحثة شوشانا زوبوف، الفيلسوفة والكاتبة الأميركية ومؤلفة كتاب (عصر رأسمالية المراقبة)، واقترحه معها أيضا باحثون في جامعتي هارفارد وستانفورد، ويقوم على أن المنصات الرقمية باتت مؤثرة على نحو يشبه المرافق العامة، وبالتالي يجب إخضاعها للمساءلة المجتمعية والقانونية، فضلًا عن (ربط الهوية الرقمية بالواقع نسبيًا)، الذي طرحه خبراء في أمن المعلومات، مثل بروس شناير، ويقترحون حلولًا وسطًا بين إخفاء الهوية الكاملة والمراقبة الشاملة، لضمان تخفيض الحسابات الزائفة والتلاعب، مع الحفاظ على الخصوصية باستخدام التشفير أو إثبات الهوية دون كشفها علنا. وهناك أيضًا مقترح (إشراف متعدد الجنسيات والثقافات)، الذي دعت إليه جهات أممية، مثل اليونسكو ومقررة الأمم المتحدة الخاصة بحرية التعبير، بالإضافة إلى مبادرات أكاديمية، مثل مرصد الإنترنت في جامعة ستانفورد (Stanford Internet Observatory)، الذي عملت فيه الباحثة رينيه دي ريستا، وذلك لضمان ألا تُصاغ أدوات الرقابة والخوارزميات من زاوية ثقافية واحدة أو بمنطق الشركات فقط. و (مناهج تعليمية رقمية ناقدة) التي نادت بها مبادرات تعليمية عالمية مثل ميدياوايز (MediaWise)، وبرامج اليونسكو، ومراكز بحثية في أوربا وكندا، وتهدف إلى تعزيز مهارات التفكير النقدي لدى طلاب المدارس والجامعات لفهم آليات التأثير الرقمي والتمصييز بين التفاعل الحقيقي والمصطنع. نحو عدالة رقمية الفضاء الرقمي ليس ساحة محايدة. إنه ساحة نفوذ، تُصمم فيها قواعد الظهور والاختفاء، ويُنتج فيها التحيز، لا الوعي. قالت هدى بركات: "أشعر أنني أكتب في فراغ يرى ولا يُرى، أراهم، ولا يسمعونني." ربما لم يكن الصوت العربي غائبًا، بل مخنوقًا داخل طبقات من الخوارزميات والصمت المنهجي. الديمقراطية الرقمية ليست حلمًا بعيدًا، لكنها ليست تلقائية. علينا أن نطالب بها، ونفكك أدوات الهيمنة، ونُدخل صوتنا في تصميم الفضاء المقبل. من الجنوب تبدأ الأصوات، ومن الشمال قد يأتي الصدى. وبينهما، لا بد من مسار جديد يُبنى بالحوار، لا بالخوارزميات.

إقــــرأ المــــزيــــــــد

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال
تحقيقات

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي
تحقيقات

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي

حياة بلا تواصل اجتماعي..  هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟
تحقيقات

حياة بلا تواصل اجتماعي.. هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟
تحقيقات

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي
تحقيقات

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"
تحقيقات

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"

أبرز الأخبار

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

قصة إعدام الفنان صباح السهل

قصة إعدام الفنان صباح السهل

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج