100%
ريا محمود
تصوير/ مهند السوداني
في بداية الطريق، كانت بغداد تختبئ في عينيه، المدينة التي تكبر حين تُحبّ، وتصغر حين تُهان. نبيل ياسين، شاعر لم يصنعه المنفى، بل صنعته بغداد حين نزفت، فحملها في قصيدته وذهب.
ولد (ياسين) عام 1950 في بغداد، بين الأزقة التي كانت تشبه القصيدة، قبل أن يُخنق الشعر في رئة البلاد. نشأ وسط عائلة تتنفس الثقافة وتقرأ، ومنذ صباه، كان الشِعر طريقه ليقول كل ما لا يُقال.
في ظِلال الكتب
أحبّ اللغة كأنها أنثى أولى، وكأنها ستصبح الحبيبة الوحيدة التي لا تخونه. كتب أولى قصائده وهو ما زال تلميذًا، وقرأها بصوتٍ خافت في مهرجانات لم تكن تعرف أنها تستقبل أحد أهم شعراء جيله.
لكن البلاد لم تكن لطيفة مع أصواتها الحرة، فمع أول صعودٍ لنظام قمعي يُكمّم القصائد، مُنعت كتبه، وطُرد من الصحافة، وتحوّل اسمه إلى ملف في قوائم سود.
في عام 1980، اختار الرحيل. لم يكن هروبًا، بل انتقال من صمت مفروض إلى منفى يصغي. دولة (المجر) فتحت له أبواب جامعاتها، فحصل على دكتوراه في الفلسفة من أكاديمية العلوم الهنغارية. لكنه لم يترك الشعر يومًا. هناك، في غرفته الباردة، كتب (أحلام شاقة)، وجعل اللغة تمشي حافية على أرصفة بعيدة.
حقيبة سفر
من (البكاء على مسلة الأحزان) إلى (دعوني أعبر هذا العالم)، كان (ياسين) لا يكتب قصيدة، بل يترك أثر جسده فيها. الكلمات عنده ليست زخرفة، بل أثر جرح نازف. مجموعته الشعرية الكاملة التي صدرت عام 2017، ليست فقط توثيقًا لمسيرته، بل سردٌ ناعم لتاريخ العراق الحديث من قلب شاعر. في لندن، وبيروت، وبودابست، قرأ شعره على مسارح لم تعرف بغداد، لكنه كل مرة كان يقرأ كما لو أن نخلة واقفة عند باب القاعة.
ترجمت الشاعرة البريطانية (جو تاتشل) شعره إلى الإنجليزية تحت عنوان (Nabeel’s Song) لم يكن كتابًا فقط، بل سيرة للعراق في صوت شاعر. في مهرجانات (أصوات العالم) في نيويورك وباريس، لم يكن (ياسين) يتحدث عن السياسة، بل عن الأم التي ما عادت تنتظر، عن النهر الذي يخاف من الجفاف، عن المدينة التي تنام بين ركام الذاكرة.
العودة الى بغداد
بعد 27 سنة في المنفى، عاد في 2007 إلى بغداد. لم تعد المدينة كما تركها. الشوارع صامتة، والمقاهي بلا ضجيج. لم يجد أصدقاءه، لكنهم كانوا ينتظرونه في قصائده. زارها، لكنه لم يستطع البقاء. كتب عنها في (أوجاع الوردة) وكأن بغداد صارت امرأة لم تعد تعرفه.
بعيدًا عن الشعر، كتب بحوثًا وفكرًا عميقًا، (الأصول الاجتماعية للتيارات الإسلامية)، و(التاريخ المحرّم)، و(أغنية نبيل). لم تكن نصوصًا أكاديمية جافة، بل كتابات تحفر في جراح الوطن، وتبحث عن أسباب الانهيار، بشجاعة المؤرخ العاشق.
استعادة الوجوه
كانت بغداد على موعد مع دفء من نوع آخر. في مكتبة أطراس، اجتمع الشعر بأهله، في أمسية استثنائية للشاعر نبيل ياسين، الذي عاد ليقرأ على وجوه لم يرها منذ أربعين عامًا. وجوهٌ جمعته بها الذاكرة، والقصيدة، والمنفى.
قدّم الأمسية الدكتور أثير محمد شهاب، الذي استعرض أثر (ياسين) في المشهد الشعري العراقي، مشيرًا إلى اشتغاله العميق على المكان الهامشي، وإصراره على تخليد المناطق الشعبية في نصوصه، مثل البياع والسيدية، حفاظًا على ذاكرة المدينة البسيطة التي كثيرًا ما يجري تجاهلها في سرديات النخبة والسلطة.
في قراءته، مزج ياسين بين الغزل والسياسة والفلسفة، متنقلًا بين دفاتر الحب والمنفى والرفض. قرأ قصيدة (ندى)، التي ارتجّ لها المكان، واستعاد طيف والدته، متوقفًا بحساسية عالية عند علاقتها بالمقدّس. بدا كأن الجميع في القاعة عاد إلى بيت قديم أو شارع منسي.
في النهاية، لم يطمح (ياسين) أن يصبح سياسيًا ولا رمزًا. أراد فقط أن يبقى صوتًا لا يُشترى، وشاعرًا لا يتقن التصفيق. كتبه ليست للبيع، بل للحفظ. صوته ليس للندوات، بل للذين يبحثون عن بغداد داخل القصيدة. نبيل ياسين لا يزال يكتب، لا يزال يتألم، لا يزال، كما في أول القصيدة.. يحبّ.