100%
أحمد سعداوي
في فترةٍ ما من عام 2010، لا أتذكّرها بالضبط، أخبرني الدكتور عبد الكريم السوداني، الذي كان مديرًا لشبكة الإعلام العراقي وقتها، بأنّ هناك مخرجًا عراقيًا يقيم في سوريا سيتّصل بي على هاتفي، لأنه سيكون مخرج المسلسل الذي كتبته للشبكة.
كان العمل، الذي تجاوز الـ 1400 صفحة، قد ذهب إلى مخرجٍ آخر قبله، انسحب بسبب ضخامة العمل، على حدّ قوله، حتى إنه لم يكمل قراءته. لكنّ المخرج الشاب الذي اتّصل بي من سوريا، وبقي معي على الهاتف مدّة ساعة، فاجأني حين قال إنّه قرأ العمل مرّتين. عرّف بنفسه: مهدي طالب.
كان معجبًا بالعمل، وبقينا على مدى ساعةٍ نتحدّث في التفاصيل، وهو يؤشّر ملاحظات إخراجية. ثم دارت الأيام، لألتقي به وجهًا لوجه في بغداد، ليقرأ العمل مرّةً ثالثة، ثم يحجز غرفةً في فندق الشيراتون، كي نقيم فيها للمراجعة والتحرير الشامل للنص، لأن اللقاءات اليومية لساعاتٍ محدودة لم تكن كافية، خصوصًا مع زحام الشوارع.
ربما كانت حواراتنا العديدة، على مدى سنوات، مفيدةً له بطريقةٍ ما، لكنني على وجه اليقين استفدت كثيرًا من خبرته في معالجة النصوص الدرامية إخراجيًا، بسبب تجربته الطويلة، التي امتدّت لأكثر من عقدٍ داخل معمل الدراما السورية.
كانت الكتابة الدرامية، بالنسبة لي، تنويعًا على مشغلي السردي، وتوسيعًا لخبراتي الفنية، التي تقف الرواية في مركزها، كاهتمامٍ أساسي. لكنّ الدراما، كتابةً وإخراجًا ومونتاجًا، كانت هي عالم مهدي طالب.
على مدى ثلاث تجارب درامية: (ضياع في حفر الباطن / 2012)، و(وادي السلام / 2015)، و(مطلوب عشائريًا / 2016)، لمستُ إخلاصه الشديد للفن، ومحاولته المرهقة لتطويع ظروف الإنتاج الدرامي في العراق كي تساير أحلامه وطموحاته. بل إنّ الكثير من الأشياء المبهرة التي صنعها في (حفر الباطن)، مثلًا، كانت ابتكاراتٍ نابعةً من جرأته هو، لا من محدّدات الإنتاج.
ولسدّ الثغرات في كادر العمل، كان يستعين بعلاقاته وخبراته القديمة، فيجلب مدير تصوير إيرانيًّا هنا، ومدير إنتاج أو موسيقيًا سوريًا هناك. الشيء المؤكّد، أنه لم يكن يرضخ لـ (الترهيم)، أو تمشية الأمور بأقل ما يمكن، بل كان يحاول استخلاص أقصى ما يمكن أن تمنحه الظروف من إمكانات.
ترنّ في ذاكرتي الآن ضحكاته عبر الهاتف، وهو داخل (لوكيشن) التصوير، حين يتمكّن من تصوير مشهدٍ كنّا نحبّه في الكتابة، بالشكل الذي يريده، فيصرخ بالهاتف مبتهجًا. حتى العقبات والنكسات المزعجة كانت تتحوّل -لاحقًا- إلى مفارقاتٍ مضحكة؛ هو من كان يحوّلها إلى ذلك، بسبب طاقة الأمل الكبيرة لديه بأنّ المقبل سيكون أفضل.
لا أستطيع استيعاب أنه رحل حقًا. ما زال لديه الكثير. وما زالت هناك ضحكاتٌ هائلة تستحق أن يطلقها، بسبب تصوير مشهدٍ جيّد.