100%
زياد جسام
في زمن تتعرض فيه الذاكرة العراقية لهزات متواصلة، وتكاد معالم المدن تضيع بين الحروب والتغييرات العشوائية، تأتي سلسلة "(موسوعة العمارة العراقية)"، للمهندس محمد رضا الجلبي، بوصفها عملًا توثيقيًا استثنائيًا يستعيد صورة المدينة ويعيد رسم ملامح هويتها المعمارية.
سلسلة الموسوعة المعمارية ليست مجرد كتب متفرقة عن المباني أو المعماريين، بل هي مشروع ثقافي متكامل يقدم قراءة شاملة لتاريخ العمارة الحديثة في العراق على امتداد قرن كامل.
لغة معمارية
أهمية هذا المشروع الكبير، الذي عكف على إنجازة المهندس محمد الجلبي، لأكثر من عشر سنوات، تتجلى في شموليته، فهو لا يقتصر على عرض المباني البارزة، بل يتتبع المسارات الفكرية والعملية للمعماريين العراقيين داخل الوطن وخارجه، ويكشف عن تأثيرات المدارس المعمارية العالمية، مقابل إصرار جيل من الرواد على صياغة لغة معمارية عراقية خاصة. كما يفتح المؤلف ملف عمارة الأجانب في العراق، وما تركته من بصمة على المشهد الحضري منذ بدايات القرن العشرين، ليضع القارئ امام صورة بانورامية متوازنة لا تمحو تأثير الآخر ولا تذيب المحلي في العابر.
من أبرز ما يميز هذه الموسوعة أنها ثمرة جهود فردية مضنية، فالدكتور الجلبي لم يعتمد على مؤسسة بحثية أو دعم من مؤسسة حكومية أو أهلية، بل كرّس سنوات طوال لإنجازها بجهد شخصي، جامعًا الصور والمخططات والوثائق.
واللافت أن التوثيق البصري فيها لم يكن مهمة سهلة، إذ واجه تحديات جسيمة، مبانٍ تراثية محاطة بمخالفات عمرانية، أو مشوهة بتعديلات عشوائية، او مطموسة خلف إعلانات وأسوار حديثة، ومع ذلك نجح في أن يعيد لها حضورها من خلال الصورة، لتصبح الشاهد الأكثر صدقًا على ما تبقى من ملامح الأصل.
حارس الذاكرة
من هنا، تكتسب الموسوعة قيمة إنقاذية لا تقل أهمية عن بعدها الأكاديمي، فهي تحوّل المادة المبعثرة إلى سجل بصري ومعرفي متماسك، أشبه بأرشيف وطني مصغر يعيد إلينا تفاصيل كان يمكن أن تضيع إلى الأبد.
ولعل وصفه في بعض الصحف بـ (حارس الذاكرة العمرانية ) يوجز طبيعة هذا الدور.
كما تشكل الموسوعة ركيزة تعليمية ومهنية بالغة الأهمية. فهي تمنح طلبة العمارة والباحثين مادة أصيلة تغني مناهج الجامعات، وتتيح للمخططين والهيئات الرسمية الاطلاع على تجارب الماضي، نجاحاتها وإخفاقاتها، بما يسهم في بناء سياسات عمرانية أكثر توازنًا.
فالكتاب لا يتعامل مع العمارة كجماليات معزولة، بل يربطها بالسياق الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي نشأت فيه، ليجعل منها مرآة للواقع ومختبرًا للتجربة الوطنية.
ولأنها موسوعة، فانها تحمل أيضًا قيمة مؤسسية، فقد لاقت أجزاؤها اهتمامًا أكاديميًا وثقافيًا ملحوظًا، واحتفت بها الجامعات العراقية والعربية على السواء، ما يعكس إدراك الوسط العلمي لكونها مرجعًا لا غنى عنه لأي باحث او مهتم بالعمارة.
مشروع مفتوح
الأهم من كل ذلك، هو أن الموسوعة ليست نصًا أرشيفيًا فقط، بل مشروع مفتوح على أسئلة الحاضر والمستقبل.
كما أنها تثير النقاش حول هوية مدننا العراقية، وعن إمكان استعادة تلك اللغة العراقية، التي تماهت في بعض المراحل مع روح المكان والناس، ثم تراجعت تحت ضغط السوق والنماذج السريعة المستوردة.
هكذا يتجاوز عمل المهندس الجلبي حدود التوثيق، ليبذل جهدًا فرديًا وجمعيًا في آن واحد، جهدًا في صياغة ذاكرة حية، ذاكرة تضع بين أيدي الأجيال القادمة مفاتيح فهم الماضي، ورسم رؤى أكثر وعيًا بمستقبل العمران العراقي.
ختامًا أقول إن (موسوعة العمارة العراقية) ليست مجرد كتب في المكتبة، بل صرخة ثقافية تقول إن "مدننا تستحق أن تفهم، وأن تحفظ، وأن يعاد بناؤها بما يليق بتاريخها العريق".