100%
صفاء الخفاجي
لم تكن ثقافة المشي وليدة العصر الحديث، فلكلِّ عصر من العصور البشرية ثقافة خاصة للمشي، أغلبها جاء من خلال طقوس خاصّة تنتمي لديانات منذ فجر التفكير... فالمشي في الديانات يُعدّ من أقدم وأعمق الطقوس الروحية والعبادية، إذ كان في هذه الطقوس رمزاً للتطهير، والتقرّب من المقدّس، والتأمّل، والتكفير عن الذنوب، أو إظهار الولاء والانتماء.
هذه الطقوس تمثّل التحوّل من حالة إلى حالة: من الدنيوي إلى الروحي، ومن الذنوب إلى الصفاء، ومن الابتعاد إلى القرب. المشي ليس فقط حركة جسدية، بل رحلة رمزية في غالبية الديانات.
وإذا سلّطنا الضوء على ثقافة المشي في الزيارة الأربعينية للإمام الحسين (ع)، فهي تتجاوز الجانب الديني لتكوّن ظاهرة إنسانية فريدة تترك تأثيرًا عميقًا في المجتمع، فهي تُسهم في تعزيز الهوية الدينية، وتجذير الانتماء لأهل البيت (ع)، كما أنَّها مناسبة يعبّر فيها المشاركون عن الانتماء الحضاري إلى ثقافة المقاومة، والعدالة، والحرية التي مثّلها الإمام الحسين. فضلًا عن أنَّها تعيد إنتاج السردية الكربلائية ضمن الثقافة العامة وتُرسّخ رموزها: كالراية، والكف، والموكب، والكرم.
فكيف رأى المثقفون العراقيون من مختلف المدن هذه الثقافة؟
استعداد روحي
يرى القاص والروائي نعيم آل مسافر، من محافظة ذي قار، أنَّ مسيرة الأربعين، التي يمارسها كلَّ عام أكثر من عشرين مليون زائر من مختلف أنحاء العالم، تُعدُّ أكبر مسيرة سلمية راجلة في التاريخ، للتعبير عن رفض الإبادة الجماعية التي تعرّض لها الحسين وآله (ع) يوم عاشوراء، وبالتالي هي رفضٌ للإبادات الجماعية كلّها التي تعرّضت- وما زالت تتعرّض- لها البشرية، فقد أصبحت مبادئ النهضة الحسينية رمزًا لأحرار جميعًا في العالم، الرافضين لمختلف أنواع الظلم والجور. كما أنَّها دورة روحية اجتماعية ثقافية، تستمرُّ لعشرين يومًا من كلِّ عام، ينقطع فيها السائر إلى كربلاء عن متعلّقاته الأخرى كلّها، مستذكرًا في أثناء المسير تلك الفاجعة الأليمة، متأمّلًا قيم التضحية والإيثار والإباء.
مسيرة ينخرط فيها الزائرون، كبارًا وصغارًا، رجالًا ونساءً، على حدٍّ سواء، من رأس البيشة إلى كربلاء في مختلف الظروف الجويّة من حرٍّ وبرد، إذ تختلط اللغات واللهجات والثقافات والألوان، وتتشابه الوجوه، وتتساوى المقامات الثقافية والاجتماعية، فلا فرق بين الجميع، بين الأغنياء والفقراء، بين العلماء والبسطاء. كما أنَّها درسٌ بليغ في الكرم والعطاء العراقي المنقطع النظير، فهي سُفرة مجّانية ممدودة من النهر إلى النحر، فيها ما لذَّ وطاب، وفندق مجاني متكامل الخدمات طوله 722 كم، يتسابق فيهما العراقيون- متطوّعين- على التوسّل بضيوف الحسين (ع) أن ينزلوا بساحتهم، ويأكلوا من زادهم، ليتفانوا في خدمتهم. مسيرةٌ تزدهر فيها الأسواق والأمنيات، وتتبادل الخبرات والثقافات. ولكلٍّ من السائرين فيها غاية في نفسه، وفهم خاص لها، ليعودوا منها إلى بيوتهم، وكلٌّ منهم يحمل منها شيئًا ما على قدر وعائه واستعداده النفسي والروحي والثقافي.
تعضيد هوية المجتمع
وبحسب الناقد الدكتور جبَّار ماجد البهادلي؛ من محافظة ميسان، فإنَّ مفهوم ثقافة المسير الأربعينية يعبِّرُ عن مدى ولاء وتلاحم التعبئة الجماهيريَّة الشعبيَّة الواسعة، التي يجتمع فيها المسلمون من مختلف الطوائف والمناطق الشيعيَّة، لإحياء هذه الشعيرة الحسينيَّة الإيثاريَّة، من خلال التوجُّه إلى مدينة كربلاء المقدَّسة، مثابة الحدث التاريخي ومركز تجمُّع الناس في مسيراتٍ راجلة كبيرةٍ تشاركُ فيها مختلف الطبقات الاجتماعية. فهي ثقافة وعيٍ بالحدث قبل أنْ تكون فعلًا بالعمل.
مضيفًا: إذ يُردِّد الزائرون في مثل هذا اليوم الفارق التراتيلَ الدينيةَ والابتهالات والهتافات الحسينيَّة المعبّرة عن عمق ولائهم المُطلق الذي يُخلّد واقعة الطف وإحياء مظلومية الإمام الحسين.
موضحاً أن لثقافة المسير أهمّية خاصةٌ عند الزائرين، إذ تُسهمُ في تعزيز عُرى الروابط الاجتماعية بين جمهور الناس، وتقوية الشعور بالانتماء والوحدة لهذه الثورة. وأنَها تعبِّر عن الولاء الصادق لشخصيَّة ورمز الإمام الحسين(ع)، ولآل بيته الأطهار، وتُعلِّمُ الناس الصبرَ والالتزام بالقيم والمُثِلِ والمبادئ التي سار عليها الإمام في ثورته الإصلاحيَّة التي أصبحت مثالًا لثورات عالمية. وفي الوقت نفسه تُسلّطُ هذه الثقافة الضوء على القيم الإنسانية النبيلة في التوحُّد والتكافل والتقارب.
كما أنَّ لها تأثيرًا كبيرًا على تعضيد هُوية المجتمع الثقافية والروحيَّة للشعب العراقي، والمسلمين من مختلف العالم الإسلامي. وقد ألقت هذه الثقافة بظلالها الوارفة على ذائقة الأدباء والفنَّانين من رسَّامين وشعراء وسَاردين. إذ أثَّرت على نتاجهم الأدبي والفنِّي الإبداعي، وأسهمت أيضًا في تعزيز الواقع الاقتصادي والسياحي المحلّي لمدينة كربلاء وبقية المناطق الأخرى المُحيطة بها من خلال تقديم الخِدمات المختلفة لزائري الإمام.
هندسة روحية
ويبيّن القاص والروائي عمار نزار من محافظة البصرة، أنَّ كلَّ خطوةٍ في هذا الطريقِ المبارك، تنحتُ شكلًا جديدًا من العلاقةِ بين الإنسانِ والمعنى. ففيه يتحوّل التعبُ إلى جزءٍ من البناء، كأنَّ الإرهاقَ مادةٌ خامًٌا يُعادُ بها إنتاجُ الذات، وهندسةٌ روحيةٌ يتحرّكُ فيها الإنسانُ من شكلِه الفيزيائي إلى صورتِه الوجوديةِ العليا. ثقافةُ المسيرِ نحو الحسين (ع) صيغةٌ متعاليةٌ من الإدراك، لا يُقصدُ منها الوصولُ إلى نقطةٍ معيّنة، بل العبورُ داخلَ الذاتِ نفسها. فكلَّما اقترب الزائرُ من الضريح، ازداد ابتعادًا عن ذاتِه القديمة. وبهذا الشكل، لا تُعَدُّ كربلاءُ موقعًا جغرافيًا بقدرِ ما تكون مرآةً داخليةً واسعة؛ كلَّما تقدّم الزائرُ فيها، اتسعت رؤيتُه لأعماقِه.
مشيراً الى أن هذه الثقافةُ تنتمي إلى منظومةٍ معرفيةٍ تستمدُّ مشروعيتَها من الألم، وتتقوّى بالتكرار، وتُنتجُ مع كلِّ موسمٍ تراكمًا وجدانيًا وفكريًا يجعلُ الهويةَ الجمعيةَ أكثرَ تماسكًا، وأشدَّ وضوحًا في مواجهةِ السيولةِ الثقافيةِ المعاصرة. والكرمُ الذي يُمارَس على جانبي الطريق، يُعدُّ فعلًا ميتافيزيقيًا يُظهرُ قابليةَ الإنسانِ لأن يكون نبعًا مفتوحًا لغيره. يتحوّل الإنسانُ في هذا المسير من كائنٍ متطلّبٍ إلى كائنٍ مضيء، تتراجع الحواسُّ لصالحِ البصيرة، ويتقدّمُ الصبرُ على الرغبة، ويتخلّى الجسدُ عن ثِقله. كلُّ شيءٍ في الطريق يصطفّ في نظامٍ غيرِ منظور، حتَّى الغبار يأخذُ شكلَه في الانحناءِ، وحتَّى الظلّ يبدو أكثرَ فهماً لما يجري. مضيفا: فالزائرُ لا يتعلّم شيئًا محدّدًا، لكنَّه يعودُ مختلفًا. وجهُه يحتفظُ بشيءٍ من الطريق، صوتُه يحتفظُ بإيقاعِ المواكب، وعيناه تحتفظانِ برائحةِ الضريح. فهذا الطريق… لا يُفسَّر. هذا الطريق… يُعاش. وهذا العيش، هو ما يُصنَعُ به المعنى.