100%
ريا الفلاحي
تصوير / حسين طالب
في قلب بغداد، المدينة التي تتنفس تاريخاً وتُسطّر أحداثاً، يقف متحف الإعلام العراقي كصرح ثقافي ينبض بذكريات الوطن وإرثه الإعلامي. فهو ليس مجرد مجموعة من المعروضات والوثائق، بل نافذة تسلط الضوء على مسيرة طويلة من الكلمة والصورة اللتين وثّقتا تاريخ العراق وتحولاته.
محطات من الذاكرة
يحتضن المتحف بين أركانه مقتنيات تعكس مختلف المراحل التي مر بها الإعلام العراقي منذ نشأته. حرصت السيدة مينا الحلو، مديرة المتحف، على إعادة إحياء مقتنيات مخازن شبكة الإعلام العراقي من كاميرات قديمة كانت شاهدة على أولى محاولات التصوير التلفزيوني، وأجهزة إذاعية عتيقة نقلت صوت العراق إلى العالم، فضلاً عن أرشيف ثري من الصحف والمجلات التي كانت تختص بأحداث البلاد وأحلام شعبها، جمعتها السيدة مينا بكثير من الصبر والمتابعة من مختلف المؤسسات العراقية التي لها شأن بذلك، كما حرصت على جمع أرشيف الشخصيات الإعلامية والأدبية والفنية، التي تركت بصمتها كإرث ثقافي في تاريخ الإعلام والإبداع العراقي، عن طريق التواصل مع ذويهم، لحفظه في المتحف.
تتنوع المعروضات بين تقارير مصورة، وأجهزة تسجيل ومخطوطات تعود إلى زمن كانت الصحافة الورقية والإذاعة الوسيلتين الرئيستين لنقل المعلومة.
الحفاظ على الهوية
المتحف ليس فقط شاهداً على التطور التكنولوجي في مجال الإعلام، بل مرآة تعكس التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي مر بها العراق. إذ يمكن للزوار استكشاف أهمية البرامج التلفزيونية والإذاعية التي شكلت منعطفاً في ذاكرة العراقيين. كانت إذاعة بغداد يومياً تفتح برامجها بتغريدة بلبل كان يسمى بلبل الإذاعة، وهو تسجيل صوتي لبلبل ميكانيكي. استمر هذا التقليد لأكثر من ثلاثين عاماً، قام أحد المتبرعين والمهتمين بالشأن الثقافي بجلبه إلى المتحف ليكون أحد أهم مقتنياته، كما قامت إحدى المتقاعدات من إذاعة العراق بجلب المصحف الذي كانت تقرأ منه السور القرآنية في إذاعة جمهورية العراق.
كما حرصت الحلو على إبراز أهم الأغلفة والمواضيع لأعداد من مجلات وصحف عراقية، تجعلك تسافر بعيداً وتتنقل من صفحة إلى أخرى وكأنك على جنح فراشة تنقلك بين أفضل الورود وأندرها وأجملها، لتنهل من رحيق الماضي بما شكّله من مبدعينا الأوائل، بين صورة ومقال ولوحة وحرف وتصميم بالغ الروعة والأهمية.
وحين صعودك إلى الطابق الثاني من المتحف سيفاجئك صوت مؤيد البدري وهو يرحب بالمشاهدين في حلقة من حلقات برنامج (الرياضة في أسبوع)، بعد إعادة تصنيع ديكور البرنامج كما شاهده العراقيون لأول مرة في يوم 24 آذار من عام 1963، الذي ظل يبث لعقود طوال في الوقت ذاته من مساء كل ثلاثاء في التاسعة مساءً.
تاريخ إعلامي
لا يخلو المتحف من مكتبة لكتّاب وأدباء عراقيين، إذ شكلت المكتبة نواةً لمجاميع من كتب وتراجم لأدباء وصحفيين وكتّاب عراقيين كانوا ومازالوا يرفدون الحياة بكل ما هو جميل، سواء من سير أو مذكرات أو روايات أو كتب بحثية وتاريخية تخص الإعلام والعراق.
وللصور أيضاً مكان واسع في هذا المتحف، فإضافة إلى الجدار الذي ضم أغلب الشخصيات الفنية والأدبية العراقية، هناك شاشات تستقبلك لتعرفك على أهم وأبرز الإعلاميين والصحفيين في البلد، كما تجدر الإشارة إلى أن المتحف في نيته التوسع ليضم قاعات خاصة للفوتوغراف والكاريكاتير ومساحات أخرى.
عيون الماضي
حرصت (الحلو) على البحث في قلب التاريخ العراقي لإيجاد شعار يليق بالمتحف، وكان اختيارها لكلمة (أيگي) (igi) التي تعني العين أو البصيرة باللغة السومرية، وهي بالخط المسماري الذي يعد الحرف الأول في العالم.
بين أروقة المتحف، لا يقتصر الأمر على الماضي فقط، بل هناك دعوة للتأمل في مستقبل الإعلام العراقي أيضاً. فهل يمكن لهذا الإرث الثقافي الغني أن يلهم الجيل الجديد من الصحفيين وصناع الإعلام كيف يمكن أن تُستخدم تقنيات اليوم لحفظ هذا التراث ونقله للأجيال القادمة؟
إنجاز الحلم
بتعاون جهات عدة مجتمع بعضها مع بعض لدعم وتحقيق حلم وجود المتحف العراقي، فمن جهة كانت إدارة شبكة الإعلام العراقي، ومن جهة أخرى كانت مبادرة (ألق بغداد) التي قادها الفنان نصير شمة مع اتحاد المصارف، لينجم عنها تحقيق المتحف الحلم .
زيارة متحف الإعلام العراقي ليست مجرد رحلة تاريخية، بل هي تجربة إنسانية تُشعر الزائر بالامتنان لأولئك الذين نقلوا الحقيقة، وواجهوا التحديات من أجل الكلمة. إنه مكان يجمع بين عبق الماضي وتطلعات المستقبل، ويستحق أن يكون واجهة لكل من يهتم بالإعلام وتاريخه.
ختاماً، يظل متحف الإعلام العراقي شاهداً على عراقة العراق وقدرته على أن يبقى منبعاً للإبداع والتواصل برغم كل الظروف. إنّه صرح يعكس روحاً لا تنطفئ، ورغبة دائمة في الحكي ونقل الحقيقة.