100%
أحمد سعداوي
حين وقع الانفجار الإرهابي في شارع المتنبي (5 مارس / آذار 2007)، كنت أضع اللمسات الأخيرة على روايتي الثانية "إنه يحلم أو يلعب أو يموت". صارت الأماكن آنذاك، من جسر العبور في باب المعظم، والميدان، وشارع الرشيد، والمتنبي، وما حولها، مناطق مقفلة لا يقربها أحد، بسبب انتشار العصابات الإرهابية، خصوصًا في فترة ما بعد الظهر.
في آخر صفحات الرواية، صوّرت مشهدًا، حيث يجتمع الأبطال المتخيّلون والموتى في بغداد أخرى، بغداد يسكنها ضحايا الاحتراب الأهلي، يتجوّلون ليلًا في شوارعها من دون وجلٍ أو خوف، يجتمعون في كافيه مقام داخل بناية القشلة، وحين ينهون سهرتهم يخرجون إلى الشارع المزدحم تحت الأضواء والأجواء الجميلة، حتى ينتهوا إلى ساحة الميدان، حيث المشهد الختامي للرواية. يكتشف بطل الرواية في النهاية مفارقة أن هذا المشهد يحصل في عالم آخر، خيالي وليس واقعيًا.
أتذكّر هذا المشهد كلما طالعت صورًا حديثة عن إعمار شارع الرشيد، وما جرى فيه من تحديثات وتغييرات. وكان أولادي، قبل شهرين، قد ذهبوا ليلًا، لوحدهم، وتجولوا في شارع المتنبي، ونزلوا إلى مشرعة النهر، والتقطوا العديد من الصور، وقلّبوا في كتب المكتبات التي كانت مفتوحة وقتها، ولم أشعر بأي قلق أو وجل على سلامتهم. كانوا يتجولون في جزءٍ من بغداد التي كانت خيالًا قبل أكثر من عقد ونصف، وصارت واقعًا. وهو بصيص أمل يمكن أن نتشبّث به كي نرى بقية بغداد الحُلمية وقد غدت واقعًا، فضلًا عن مشروعية الحلم بالنسبة لكل مدن العراق وبلداته وقراه.
من منظور أوسع، لا يمكن النظر إلى المدن العظيمة في العالم بمعزل عن الخيال؛ الخيال الذي ينتجه أدباء وفنانون يحوّلون المدن وشوارعها وجسورها وبناياتها إلى منتجات خيالية، أو جزءٍ من صورة أعمق من مجرد أحجار وأماكن. لقد جهد مبدعو العراق، طوال قرن مضى، ليربطوا، من خلال الفن، بين بغداد الحياة اليومية التي نعيشها، و"بغدادات" كثيرة متوارية تحت السطح: بغداد ألف ليلة وليلة، كما في منحوتات محمد غني حكمت، وبغداد بيت الحكمة والعمارة الإسلامية، وأخرى عن بدايات القرن العشرين، حين كانت عاصمة العراق رائدة في المنطقة، بالتحديث والاتصال بحركة الحداثة العالمية.
بغداد الشعر بين الرصافة والجسر، والمتصوّفة، وقوارب الصيادين، ومقامات الأئمة والأولياء، وكتب الرحّالة والجوالين، وأصوات القراءات القرآنية، ومقامات العاشقين وألحانهم. بغداد التي كان، وما زال، جزء من هويتها أنها مدينة مفتوحة للجميع، قادرة على تذويب الغريب في نسيجها. كل ذلك يتجلى من خلال الفن، فهو الذي يفتح الطبقات التاريخية والاجتماعية، بعضها على بعض، ويضفي عمقًا وشعرية فائقة على مجرد فعل بسيط؛ مثل التجوال في شارع الرشيد، أو الوقوف في منتصف الجسر على النهر.