علي السومري /
لا يمكنك دخول كرادة بغداد دون المرور بمقهى أبي زهراء، ملتقى المثقفين والفنانين والإعلاميين. وإن كنت من رواد المقهى، فبالتأكيد أنك رأيته وسمعت ضحكته المميزة ذات الصوت العالي. مهدي طالب، المخرج المختلف، المسحور بعوالم الصورة وتفاصيلها، مقعده المميز في ركن المقهى، زاويته الأثيرة، حتى أن الأصدقاء اعتادوا، عند حاجتهم لرؤيته، الذهاب هناك دون أن يتصلوا به، هم مطمئنون بأنه سيكون هناك، وسيسمعون صوته، حتى قبل أن يصلوا المقهى. منذ أسبوع وزاويته فارغة، صدى ضحكاته تلاشى، الأصدقاء الذين يلفهم الحزن، ويجلسون هناك، لا قدرة لهم على النظر إلى مقعده، أو صورهِ المعلقة على الأشجار، وفي مقهى (كهوة وكتاب). لقد مات مهدي طالب، مات في مشهدٍ رُسم بدقة، كانت فيه اللقطة الأخيرة طويلة ومؤثثة، كما كان يُحب، سار فيها بعد منتصف الليل في المدينة التي أحبها، وقضى سنين عمره فيها بعد عودته لوطنه، بعد اغتراب إجباري عاناه زمن الديكتاتورية، وقبل أن يستقل سيارة الأجرة، حيّا الجميع كعادته، على أمل اللقاء في اليوم التالي، لقاء لن يتحقق. كان مخرجًا استثنائيًا، قارئًا من الطراز الأول، يُشرّح النصوص التي تقدم له، يتدخل في مصائر أبطالها، يعيش معهم حتى إنجاز المشهد، هو الصارم عند العمل، الساخر في الحياة. في مشهده ما قبل الأخير، ذهب مهدي طالب إلى طبيبه في المستشفى، الذي سيشهد -لاحقًا- آخر أنفاسه، باحثًا عن علاج لسعال أنهك صدره، لكن مرض قلبه كان قد وصل إلى ذروته، ولم يمنحه الوقت الكافي للعودة إلى عائلته وصحبهِ مرة أخرى، لم يتسع الوقت سوى لغيبوبة دامت أيامًا معدودات، ليرحل بعدها بصمت، صمت لم نعتده منه طوال حياته، هو الساخر، الضاحك، المحتج، المبدع. ياصديقي قلت لك مرارًا: "لم يعد القلب يتسع لشواهدٍ جديدة، يا لهذه المقبرة، يا لهذا القلب." وها أنت تمنح قلوبنا شاهدًة جديدة. وداعًا سيد السخرية.