المشهد الثقافي في كردستان العراق.. تجسيد للحراك الحضاري وتعدد الواجهات والمصادر

ضحى العنزي تُعد كردستان العراق اليوم بوتقة ثقافية غنية، تجمع بين الموسيقى، والسينما، والأدب، والفنون الشعبية، ضمن بيئة ترفض الخمول. إذ تمتد الفعاليات، من مهرجانات دولية، إلى مشروعات توثيق التراث، ما يعبّر عن حيوية مجتمعية ترغب في رسم رأي مستقل، وتعزيز التعددية، حيث ينبض المشهد الثقافي بلا توقف. شواهد غنية المؤلف والسينمائي (كاي بهار) كان من بين الأصوات المبدعة التي برزت، إذ يقول في إحدى مقابلاته إن "سرد القصص أهم من النفط بالنسبة لنا." كما يوجد في مدينة السليمانية معهد التراث الكردي، الذي تأسس أثناء رئاسة الفنان المنفي مزهر خليقي، حاملًا على عاتقه أرشفة أكثر من عشرين ألف لحن وقصة من أعماق الذاكرة الشعبية. وكواحد من المعمّرين بالثقافة، يؤكد مزهر: "ثقافتنا لم تُبنَ من فراغ، بل هي إرث تاريخي نحمله ونعيد نثره في أواني الإبداع." عِمران عمر، طالب جامعي، يروي قصة صدور ديوانه الشعري الأول باللغة الإنجليزية، 59 قصيدة بعنوان Reflection، إذ انطلقت نسخ ديوانه من أربيل إلى دهوك وزاخو. يقول عمران: "الشعر بالنسبة لي مساحة شخصية صافية." وإذا حاولنا تسليط الضوء أيضًا على الشعراء القدامى، فنجد في (كژال أحمد لطيف) صوتًا نسائيًا ثائرًا، من كركوك إلى السليمانية، ترتبط أشعارها الذاتية الحادة بالصراع الاجتماعي والثقافي. فهي شجاعة وجريئة، تفضح القيود الاجتماعية. هذا الصوت يضيف تنوعًا أساسيًا للمشهد الثقافي، ويضاعف قدرته على الحوار مع جماعات أخرى، سواء النسائية، أو المكونات الدينية المختلفة. قاعات عرض الأمر نفسه نلمسه في مدينة دهوك، حيث فتحت الفنانة (سولين نيرفانا)، ورفيقاتها، قاعات عرض فنية، توسّعت بفضل برنامج (Art and Activism)، الذي دعمه معهد غوته في أربيل. كما عبّرت (لاناه حدّاد)، مؤسسة لعبة لوحية عن التاريخ الآشوري، عن انفتاح المدينة على المُبدعين بقولها: "ليست هناك رقابة مباشرة، طالما أنك لا تتدخل في سياسات حزبية." وهذا ما يعطي دهوك هويتها الخاصة كفضاء إبداعي متحرّر جزئيًا. أما الروافد الأنثوية الأكثر دينامية، فتجدها في (كفاح هوزان محمود)، الكاتبة والنسوية الناشطة، التي أسست مشروع (Culture Project) لنشر الأصوات النسائية الكردية وترجمة نصوصهن من وسائل الإعلام إلى منصات حرة. تقول هوزان عن المشروع: "نرفض الطائفية والقومية الأبوية، ونعيد إنتاج ثقافة تنفتح على النقد الذاتي." وحضورها يُذكّرنا بأن استكمال المشهد الثقافي لا يكتمل دون صوت المرأة النقدي. الترجمة والكتابة وإذا كانت هذه الملامح تظهر في الحيزين الشعري والفني، فإن الترجمة والكتابة ضمن ميادين الإبداع تُشكّل شريانًا آخر. (كاوة نمير)، الكاتب والمترجم، يزيد بترجمته (هاملت وهاملت) إلى الكردية، وتقاسمه العمل مع تحرير مجلة Jiyana Rewşen في أمستردام، الصورة، وكأنها جسر بين كردستان والعالم. وبهذا يتحقق التلاقح الثقافي، ويُوسّع مدار تساؤلات المثقف الكردي، ويحمي لغته من الانحسار. هذه التجارب المتنوعة، أدبًا، وترجمة، وفنونًا، ونساءً، تشهد أن الثقافة الكردية ليست إبداعًا موسميًا، إنما هي حركة تؤطر حاضـــــرها بالــــــجذر الروحــــي والتاريخي. مركز شامل إلا أن هذه الفنون لا تخلو من تحديات حقيقية، ومنها: التفتّت المؤسساتي، وتذبذب التمويل، وضعف البنى التحتية، كالنشر والستوديوهات والتدريب المجاني. ولعل الحل يتمثل في مركز ثقافي أكاديمي متكامل، يدعم الدراسات، ويصدر نصوصًا باللغات الكردية والعالمية، ويواكب المؤسسات المركزية الحديثة. وهو ما يؤكد عليه الباحث سعيد شاهين من جامعة صلاح الدين، إذ دعا لبناء (هيكل ثقافي متماسك)، قد يحمل بديلًا لغرف نشر متناثرة ومنظمات تتراوح بين الدعم المؤقت والإعلاني. يمثل المشهد الثقافي في كردستان العراق تجسيدًا لحراك حضاري، متعدد الواجهات والمصادر، ويعبر عن تلاقي التراث والإبداع. في خاتمة الأمر، لا يخفى أن كردستان العراق تعيش لحظة ثقافية نادرة، ترتكز إلى أصوات نابضة وروحٍ نقدية متفتحة. هي تجربة تعيد إحياء الثقافة كشكل من أشكال المقاومة، وسط أعاصير السياسة والمتغيرات الجيوسياسية.