100%
صفاء أنصاف
تطرح مدّونة هافينغتون بوست رأيها حول قراءة الروايات، قائلة إنَّها "تعطي الحكايات شكلًا للعقل، وفي بعض الأحيان، تعرّف بالشخص." وفي المقالة التي نشرتها، وترجمها يوسف الشيخ، تتساءل: "ماذا يحدث بالضبط للدماغ حينما نكون بصدد قراءة رواية ما؟"
تماهٍ ذهني
على الرغم من أنَّ هناك آراءً متضاربة حول جدوى قراءة الرواية، وما الذي فعلته في العقل البشري، فقد أجرى الدكتور جورج بيرنز، مدير مركز السياسات العصبية لجامعة (دي إيموري أطلنطا) بجيورجيا تجربةً على مجموعة من الطلبة، إذ اشتغلوا على صور الرنين المغناطيسي الوظيفي (RMf) المأخوذة عن أدمغة 21 طالبًا وهم في فترة راحة، طلب منهم بعد ذلك أن يقرأوا فصولًا من رواية الرعب (بومبياPompeya ) لروبرت هاريس لمدّة تسع ليالٍ.
ويشير التقرير إلى أنَّ الصور المأخوذة كشفت عن ارتفاع غير متوقّع على مستوى ارتباط أدمغة الطلبة بالرواية خلال خمسة أيّام، عقب الانتهاء من القراءة. كما لاحظ الباحثون أنَّ هذه التغييرات دامت كذلك خمسة أيام. ويشرح بيرنز: "تحتوي المنطقة الأمامية لشق رولاندو على خلايا عصبية لمراقبة حركة أعضاء الجسم، وتحتوي المنطقة الخلفية للشق على خلايا عصبية تستقبل معلومات عن الشعور بالنسبة لمختلف أعضاء الجسم. إنَّ استمرار عملية الارتباط كان مفاجأة قد تعني- ربَّما- أنَّ فعل القراءة يجعل القارئ يتماهى ذهنياً مع بطل الرواية."
لماذا الرواية؟
ربّما تشكّل الدراسات الحديثة، وما طرحه الدكتور (بيرنز) أيضًا، ثيمات أوّلية لفهم ما الذي تفعله الرواية في عقل القارئ، لكنّنا بحاجة للعودة إلى الأسس التي استند إليها ظهور الرواية، فتحدد كارين ليتاو في كتابها (نظريات القراءة.. الأجساد والكتب والشغف بها)، بترجمة محمود أحمد عبد الله، أنَّ "ثلاثة ابتكارات تكنولوجية مهمّة في العصر الحديث أعادت تعريف علاقة المجتمعات الغربية بالكلمة المكتوبة، وفي أثناء ذلك غيّرت أحاسيسنا: اختراع المطبعة في منتصف القرن الخامس عشر، واختراع الكاميرا السينمائية نهاية القرن التاسع عشر، واختراع الكمبيوتر في منتصف القرن العشرين."
إذ أدخلتنا الطباعة أولاً إلى الحداثة، وكانت السينما تتويجًا وتجسيدًا لها، في حين دفعتنا تكنولوجيا الكمبيوتر إلى ما بعد الحداثة، فقد سهّلت المطبعة زيادة غير مسبوقة في إنتاج الكتب، وتسبّبت في ظهور عدد كبير من القراء، وكان لها دور فعّال في ظهور فن الرواية، في حين تحدّت فيه السينما الرواية في كثير من النواحي، باعتبارها الشكل الرئيس للترفيه الجماعي، ما أثار الشكوك في احتمال وجود مستقبل بلا كتب. أما الكمبيوتر فوعدنا ببيئات جديدة لإعمال الخيال، وإن كان أيضًا يصيبنا بمشاعر الخوف من وقوفنا على حافة مرحلة نهاية الكتاب.
جرعات القراءة
تؤكّد (ليتاو) أنّ الرواية، نظرًا لأنَّها منتج استهلاكي، فمن آثار استمرار قراءتها "إضعاف العقول" بين الرجال والنساء، ما يجعل ألياف أجسادهم مترهّلة، ويقوّض "قوّة الأمم". وهناك من عدّ قراءة الرواية صنفًا من صنوف الإدمان، إذ طالب المصابون بالمزيد والمزيد من الشيء نفسه، مزيدًا من جرعات القراءة، ومن الإثارة، ومن الدموع، والرعب والتشويق. ومن ثمَّ يعدُّ الهوس بالكتب جزءًا من مرض ثقافي أكبر مرتبط بشكل خاص بالحداثة، أي مرض التحفيز الحسّي المفرط.
بالعودة إلى القرن الثامن عشر، الذي ارتفع فيه الطلب على الشعر في الفترة ما بين 1740 و1800 بنسبة 1: 13، ازداد الطلب على الرواية في المدّة ما بين 1750 و1805 بنسبة 1: 32، وهذا يشير إلى ظهور الرواية كأكثر الأشكال شيوعًا للهروب، أو أنها من متاعب الحياة اليومية. وبالتالي، فإنَّ التحوّل من الأدب الديني إلى الأدب العلماني، من العظة إلى الأدب الخيالي، هو تحوّل أشار إليه رولف إنغلسينغ أيضًا كتحوّل من "القراءة المكثفة" إلى "القراءة الموسّعة".
قتل الوقت
من جانبه، أشار الباحث صمويل تايلور كولريدج إلى مخاطر القراءة، مبينًا أنَّ الرواية وإدمان قرّائها عليها، هو محط اللوم: لأنَّه "حين تسود عادة قراءة الروايات، فإنَّها بمرور الوقت تدمّر قوى العقل تدميرًا كاملًا؛ فهي خسارة فادحة للقارئ، إذ يصعب عدّها تمضية للوقت بقدر ما هي قتل للوقت." هذه الملاحظات لا تقول لك فقط إنَّ القرّاء فضّلوا كتبهم على الأحياء، لكنَّ هذه الروايات يمكن أن تضرَّ بصحّتك بشكل خطير، وبالتالي يجب فهم هذه الملاحظات فهمًا حرفيًا، بدلًا من التعامل معها على أنَّها عبارات من باب المجاز. ولعلَّ تلقّي شخصيات أدبيّة مرموقة، من أمثال يوهان فولفغانغ فون غوته، للروايات القيّمة، يشير إلى مدى خطورة الرواية، أو كما قال (غوته) نفسه، عن روايته الأولى "آلام فيرتر" وكيف أصبحت شديدة الخطورة. ذلك خوفًا من قيام القرّاء المتأثّرين بالرواية، بالإفراط في التماهي مع محن البطل.