أحمد البديري /
في خطوة وُصفت بأنها مفصلية في مسار إصلاح الاقتصاد العراقي، تعتزم الحكومة تنفيذ تعداد زراعي شامل بحلول نهاية عام 2026، باستخدام تقنيات الاستشعار عن بُعد والطائرات المسيّرة. المشروع الطموح، الذي ستشرف عليه وزارة التخطيط، بالتعاون مع وزارة الزراعة، يستهدف رسم خريطة دقيقة للإنتاج الزراعي والثروة الحيوانية وأنماط الحيازة، ويُنتظر أن يشكّل قاعدة بيانات متكاملة تُعتمد لعقود قادمة في التخطيط الزراعي والاقتصادي. ويشمل التعداد عناصر المشهد الزراعي كافة، من حالة المحاصيل وأنواع الأشجار إلى تصنيف الثروة الحيوانية وتحديد أعدادها ومواقعها. ويُتوقع أن يسهم هذا المشروع في تقديم صورة واقعية عن قدرات العراق الزراعية، ما يمكّن صانعي القرار من بناء سياسات أكثر فاعلية واستدامة. المستشار في وزارة الزراعة، مهدي القيسي، أكد في تصريح لـ"الشبكة العراقية" أن الوزارة كانت قد قدمت عام 2016 مشروعًا لتعداد النخيل، لكنه لم يُنفذ بسبب الظروف السياسية والأمنية آنذاك. وأضاف أن التعداد المرتقب "يُعد من المشاريع الستراتيجية الكبرى، وسيوفر مرجعًا علميًا متينًا لصانعي الخطط والستراتيجيات في المستقبل." صدارة الأولويات هذا التعداد لا يأتي من فراغ، بل يُعد تتويجًا لتحول لافت في سياسة الدولة تجاه الزراعة. فقد أعلن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، مؤخرًا، أن الزراعة لم تعد قطاعًا هامشيًا في أجندة الدولة، بل أصبحت "الركيزة الأساسية للاقتصاد الوطني." جاء ذلك خلال لقائه بأساتذة كلية الزراعة في جامعة بغداد، حيث أكد أن "الحكومة تعوّل على البحث العلمي والخبرات الأكاديمية لتجاوز التحديات المزمنة التي واجهت هذا القطاع." فرص عمل وبدأت الحكومة منذ عام 2022 بإطلاق حزمة من المشاريع الطموحة التي أعادت الحياة إلى الأراضي العراقية، أبرزها تحقيق طفرة في إنتاج الحنطة، إذ وصل الإنتاج المحلي عام 2025 إلى 6.4 ملايين طن، متجاوزًا الحاجة الداخلية. وأسهم هذا الإنجاز في تصدير الفائض إلى دول، مثل تونس، في مشهد غير مسبوق منذ عقود. كما توسع العراق في تصدير 13 نوعًا من الخضراوات والفواكه، أبرزها الطماطم والبطاطا والبطيخ والرز والتمور. وجرى تركيب أكثر من 7000 منظومة ري حديثة، ما أضاف نحو 1.5 مليون دونم إلى الرقعة الزراعية. وفي مواجهة التصحر، تم استصلاح 3.5 ملايين دونم من الأراضي الصحراوية، كما خُصصت أراضٍ للشباب الخريجين بمساحات تصل إلى 50 دونمًا لكل منهم، في خطوة تهدف إلى خلق فرص عمل وتحقيق الاكتفاء الذاتي. الأسواق العالمية وشهد قطاع النخيل تطورًا ملحوظًا، إذ قفز عدد نخيل العراق من 9 ملايين نخلة عام 2003 إلى 22 مليونًا في 2025، مع خطة لبلوغ 30 مليون نخلة بحلول 2030. كما توسعت الزراعة النسيجية لتشمل أصنافًا عالمية فاخرة، مثل "المجهول" المغربي و"دقلة نور" التونسي، في حين تجاوزت صادرات التمور الـ 730 ألف طن إلى أسواق أوربية مرموقة. رغم هذه القفزات، لا تزال مساهمة الزراعة لا تتجاوز 6 % من الناتج المحلي الإجمالي، في مقابل هيمنة قطاع النفط على أكثر من 90 % من الإيرادات. ودعت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) العراق إلى اعتماد أنظمة ري ذكية قائمة على بيانات الأقمار الصناعية لتقليل الهدر وتعزيز كفاءة إدارة المياه. أما النائب السابق فرات التميمي، عضو لجنة الزراعة النيابية، فرأى أن الدعم الحكومي للمزارعين لا يزال بحاجة إلى ستراتيجية طويلة الأمد تُحوّله من دعم استهلاكي إلى استثمار منتج ومستدام. التعداد الزراعي المرتقب لا يمثل مجرد جهد إحصائي، بل هو إعلان نية لتغيير قواعد اللعبة الاقتصادية. إنه الخطوة الأولى نحو اقتصاد إنتاجي متجذر في الأرض، لا يعتمد فقط على تصدير النفط، بل يراهن على ثرواته الطبيعية والبشرية. وفي حال نُفّذ هذا التعداد بكفاءة وشفافية، فقد يكون بوابة العراق إلى استعادة هويته الزراعية الضاربة في أعماق التاريخ، وتحصين اقتصاده في وجه تقلبات السوق العالمية.