100%
ريا الفلاحي
في (لالش)، حيث الجبال تقف كالأضرحة القديمة، وتسيل المياه من العيون كما لو أنها تبكي سرًا لا يُقال، يحتفل الإيزيديون كل عام بعيد صيفي لا يشبه سواه. ليس لأن الطقوس غريبة، بل لأن الزمن فيه يبدو واقفًا عند عتبة الضوء. يسمّونه عيد (جلى هاڤینى)، أو كما يُترجم للعربية (مربعانية الصيف).
الصمت والنار
في الحادي عشر من حزيران، حين تبدأ الشمس تنحني قليلًا في السماء، يُدخل بعض رجال الدين الإيزيديين أنفسهم في صيامٍ طويل، لا يُلزم به الجميع، لكن من يصومه، يُقال إنه يقترب من (كلمة الخالق)، ويطهر جسده من كل ما علق به من فوضى العالم. يصومون بصمت، كما لو أن الكلام يفسد الصلاة. أربعون يومًا يكتفون فيها بالقليل من (الماء، والخبز، وبعض التراتيل التي لا تُقال إلا همسًا). وفي الليلة التي تسبق العيد، تنقلب القرية الصغيرة إلى ضوء قناديل زيتية تُشعل في كل زاوية من زوايا معبد لالش، وكأنهم يعلنون أن النور انتصر على حر الشمس، وأن الكائنات التي قاومت هذا الصيف اللاهب تستحق الاحتفال.
عيد النور
لا تُقرع الطبول في عيد الإيزيديين، ولا يلبسون الأزياء الباهرة كما في أعياد المدن. في لالش، العيد حوار خافت بين الإنسان والعناصر (الماء، الزيت، الحجر، والنار). يدخل الزائرون المعبد حفاة، ويمسحون جباههم بالحجر المقدّس، ويعبرون جسر (كانيا سبي)، كأنهم يعبرون إلى عالم أنقى.
في الفجر، يتقدّم القوّالون –وهم حفظة التراتيل المقدّسة– حاملين دفوفهم وناياتهم. لا ينشدون للفرح، بل للمعنى. يتلون (بيتات العيد)، وهي أناشيد دينية مقدسة تُتلى شفاهيًا في الطقوس الإيزيدية، وتُعتبر من أهم أشكال التعبير الروحي لدى الإيزيديين. بعضها خاص بالمناسبات الكبرى، ومنها ما يُتلى في الأعياد فقط، مثل (مربعانية الصيف). كل صوت فيها ارتجافة نور. يحكون عن النبي نوح، عن الكهف الذي اعتزل فيه أربعين يومًا، عن الطوفان، وعن الشمس التي لا تنطفئ.
المعبد الذي لا يغلق أبوابه
لالش ليس مكانًا فقط، بل كائن حي في وعي الإيزيدي. إنه القلب الروحي للديانة التي نجت من حرائق التاريخ، والمحراب المفتوح للسماء. تقع هذه البقعة المباركة بين جبال شيخان، شمالي العراق، لكنها لا تشبه المدن ولا القرى؛ فهي لا تُسكن، ولا يُبنى فيها بيت، ولا تُباع فيها سلعة.
يدخلها الزائرون حفاة، كما وُلدوا، حاملين رجاء، أو دمعة، أو صلاة. في لالش، يُشعل الزيت كما لو أنه شوقٌ لا ينطفئ، ويتقاطر الماء من عين (كانيّا سبي)، فيغسل وجوه العابرين إلى النور. في قلبه، يقوم المعبد المخروطي الشكل، الذي يحتضن ضريح الشيخ عدي بن مسافر، الرجل الذي أعاد ترتيب ملامح الديانة الإيزيدية قبل قرون، وصار ضوءًا يهتدون به في ليل الأديان.
لا تُقام في لالش أعراس، ولا تُدفن فيه أجساد، فهو طاهر كأصل الخلق. لكنه يحتضن الطقوس كلها، من التعميد إلى التراتيل إلى صلوات الصباح، التي تبدأ عند أول خيط شمس. من لم يزر لالش، يُقال له: "أنت لم ترَ وطنك"، لأن الوطن لدى الإيزيدي ليس فقط الأرض، بل الذكرى، والماء، والنور، ومكان لا تُخلع فيه الأرواح.
في العيد، لا ينام لالش. على طول الليل، يأتي الزوار من سنجار وشيخان ودهوك ومناطق نائية. بعضهم لا يتحدث الكردية، لكنه يعرف الطريق إلى المعبد، كما يعرف الطريق إلى قلبه. يُقدَّم لهم حساء السماط، وهو حساء خفيف يُعد من نبات بري ينبت قرب لالش، يرمز إلى الكفاف والبركة، وتُوزع التمور والماء، ويقال إن كل من يشرب من نبع (كانيا سبي) سيُبارك في ماله وولده وعافيته. النساء يأتين بثياب سود بسيطة، يربطن شعورهن بخرقة بيضاء، ويجلسن قُرب الشموع المشتعلة، يهمسن بدعوات ناعمة: شفاء، رزق، عودة غائب، أو مجرد سلام داخلي.
العيد الذي نجا من الحروب
مرّت على الإيزيديين سنوات شداد لا تُعد، اختُطف فيها أبناؤهم، وأُحرقت قراهم، وحُظر دينهم، وصمت العالم طويلًا. لكن عيد (مربعانية الصيف) لم ينكسر. حتى في المنفى، كانوا يُشعلون شمعة، ويغسلون وجوههم بالماء البارد، ويرددون ترنيمة قديمة كُتبت قبل أن نعرف ما تعنيه الدولة أو الحدود. في عام 2020، ألغى المجلس الروحاني طقوس العيد بسبب جائحة كورونا. لم يُشعل أحد شموع المعبد، ويقال إن لالش بكى ليلتها، أو ربما هذا ما توهمه الحراس.
طقوس تكتب حضورًا
عيد (مربعانية الصيف) ليس مجرد تقويم موسمي، بل موقف فلسفي كامل. إنه إعلان بأن الإنسان جزء من النظام الكوني، لا خصمًا له. يصومون حين تبلغ الشمس ذروتها، ويحتفلون حين تبدأ تنكسر. لا حقد في الطقس، ولا فكرة عن عقاب. الدين هنا ليس خندقًا، بل محاولة لتجسير العلاقة بين الوجود والروح.