ريا محمود /
في بغداد، تحديدًا داخل البيت الآمن الذي أسسه هشام الذهبي قبل عقدين، نشأ مرتضى وتشرّب الحلم. لم يكن ذلك المكان مجرد مشروع إنساني لإيواء الأطفال المشردين، بل كان بيئة تربوية واجتماعية ونفسية متكاملة، أسست لفكرة "إن الرعاية تبدأ من الطمأنينة، وإن الكرامة الإنسانية لا تُجزّأ." مرتضى هشام الذهبي، شاب عراقي لم يسلك مسارات الشهرة السهلة، كما يفعل كثيرون من جيله على منصات التواصل الاجتماعي، بل حوّل تلك المنصات إلى امتداد للبيت الآمن، وجعل منها وسيلة للوصول إلى من هم خارج أسواره، (أطفال ومسنّون) فقدوا الأمان، ووجدوا في صوته صورة مختلفة للنجدة. لا يكتفي مرتضى بنشر فيديو لمشرد أو حالة إنسانية، بل يتابعها بنفسه، ويتواصل، ويرافقها حتى توفير تأمين مأوى حقيقي، أو دمج مع برامج (البيت الآمن). برامجه، التي يبثّها عبر (الإنستغرام) و(تيك توك)، ليست من أجل التسلية ولا الحضور الرقمي الخاوي، بل هي محاولات واعية لنقل الوعي والضحكة واللعب والتفاعل إلى الأطفال. يخطط، وينفّذ، ويشاركهم التفاصيل وكأنّه أخٌ أكبر، أو صديق يعرف تمامًا كيف يؤسس مساحة من الثقة. لكن الأهم، أن مرتضى كان دائم الإيمان بأن مشروع والده لا يتوقف عند الأطفال وحدهم. بدأ بتوسيع المبادرة لتشمل المسنّين الذين هم بلا مأوى، ليكون البيت الآمن أكثر شمولًا: أطفال ومسنّون يلتقون داخل برامج مشتركة، يشاركون يوميات بسيطة، ويكوّنون فيما بينهم نموذجًا لعائلة بديلة، لكنها حقيقية، فدار المسنين، التي أطلقوا عليها اسم (بيت جدو)، مساحة أخرى لحفظ كرامة الإنسان وتهيئة البيئة العائلية الحميمة بين أجيال مختلفة. كما أنهم لم ينسوا إخوانهم، فمبادرة هشام الذهبي تشمل العوائل المتعففة، وتقوم سنويًا بخلق مناسبات عائلية كرنفالية كبيرة، تجعل من البيت الآمن وبيت جدو (البيت العائلي الكبير) الذي يحتضن الجميع بمحبة وصدق وأمان. وفقًا لتقارير منظمات محلية، يُقدّر عدد الأطفال المشردين في العراق بعشرات الآلاف، يعيش معظمهم دون وثائق رسمية، خارج أي نظام صحي أو تعليمي، بلا حماية من الاستغلال أو العنف أو الإدمان. أما كبار السن، فكثير منهم يواجهون التشرد بعد أن تخلّى عنهم ذووهم، أو تقطّعت بهم السبل، يعيشون على ما تجود به الأرصفة أو المارة. تُشير بيانات وزارة العمل والشؤون الاجتماعية إلى أن نحو 30 ألف طفل عراقي يعيشون في الشوارع، بعضهم لا يتجاوز عمره خمس سنوات. وبحسب منظمات غير حكومية، فإن هذا الرقم لا يعكس الواقع الفعلي، إذ إن كثيرًا من الحالات لا تُسجَّل رسميًا بسبب عدم امتلاكهم مستمسكات ثبوتية أو تنقّلهم المستمر بين المدن. تتراوح أسباب التشرد بين الفقر المدقع، وتفكك الأسرة، والعنف المنزلي، وهروب الأطفال من مؤسسات الرعاية، إضافة إلى النزاعات المسلحة التي خلّفت آلاف الأيتام. في تقرير صادر عن (شبكة الحماية المجتمعية)، ورد أن بعض هؤلاء الأطفال يتعرضون يوميًا للعنف الجسدي، أو الجنسي، أو يُجبرون على العمل القسري والتسول المنظم من قبل عصابات. أما فئة كبار السن، فقد سجلت تقارير من (دار المسنين في بغداد) أن أكثر من 40 % من نزلاء الدار عثر عليهم في الشارع، دون أقارب أو جهة تتبناهم. وتؤكد الجمعيات الخيرية أن ظاهرة (الشيخوخة المشردة) بدأت بالتصاعد، ولاسيما بعد عام 2014، نتيجة الهجرة والنزوح وفقدان الأبناء المعيلين في الحروب، أو بسبب الفقر. مرتضى لا يقدّم خطابًا عاطفيًا، بل تطبيقًا عمليًا لمعنى (المسؤولية الاجتماعية). في بلد تتقلص فيه فرص الشباب، وتضيق فيه المساحات الآمنة، يثبت مرتضى أن العمل اليومي، المتراكم، الصادق، قد يصنع فرقًا.