زياد الهاشمي /
شهدت إسطنبول، على مدى ثلاثة أيام متواصلة، عقد منتدى ترابط النقل العالمي، الذي يمكن اعتباره كأحد أهم المؤتمرات الاقتصادية الخاصة بالنقل الدولي التي شهدتها المنطقة خلال الفترة الماضية، بحضور الرئيس التركي وأكثر من 70 ممثلًا لحكومات ووزراء نقل 40 دولة، منهم وزراء تركيا والسعودية ومصر وغيرهم، إلى جانب كبار مسؤولي البنك الدولي وممثلي صناديق تمويل البنى التحتية، ورئيس منظمة النقل البري الدولي. ركز المنتدى على أهمية الترابط بين شبكات النقل العابر للحدود بين الدول، لتحقيق مستوى متقدم من التكامل الاقتصادي والرفاه الاجتماعي والاستقرار السياسي بين الدول. وقد كان مشروع طريق التنمية العراقي أحد نجوم هذا المؤتمر، إذ سلطت المداخلات والتصريحات الرسمية الضوء على أهمية هذا المشروع في تحقيق الترابط الاقتصادي العابر للقارات، ودور الجغرافيا العراقية كمحور ستراتيجي مستقبلي لتحقيق هذه الأهداف. وشهد المنتدى نقاشات مكثفة حول أهمية التكامل الإقليمي من خلال شبكات النقل المتقدمة، وأجمع المشاركون على أن بناء البنى التحتية العابرة للحدود لم يعد مجرد خيار استثماري فحسب، بل ضرورة ستراتيجية لتعزيز الاقتصادات الاقليمية وتنويع مصادر الدخل. ستراتيجية أنقرة وقد أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في كلمته عند افتتاح هذا المنتدى، على أن تعزيز الخطوط البرية بين الدول والخدمات اللوجستية الفعّالة يعد أساسًا لتحقيق استقرار جيوسياسي واقتصادي مستدام. وذكر أن مشروع (الممر الأوسط)، المتكامل مع (الحزام والطريق) الصيني، يتيح تقليل زمن نقل البضائع بين أوربا وآسيا من نحو 35 يومًا عبر قناة السويس إلى أقل من 15 يومًا عبر تركيا، وأن طريق التنمية العراقي يمكن ان يحدث نقلة نوعية في اقتصاد المنطقة. من جهته، سلط وزير النقل والبنية التحتية التركي عبد القادر أورال أوغلو الضوء أيضًا على (الممر الأوسط) و(طريق التنمية العراقي) وارتباطهما بالشبكة التركية التي تُعرف باسم (الأصابع الخمسة)، وهي شبكة داخلية مكونة من خمسة محاور نقل برية رئيسة، تتفرع من حدود تركيا، ويرتبط بها طريق التنمية العراقي والممر الأوسط الصيني، وتندمج في مسار أو مسارين نحو البحر الأسود، والبحر الأبيض، والبلقان، وشرق أوربا. وأشار الوزير إلى توقيعه 12 اتفاقية تعاون مع دول إفريقية لتعزيز شبكة النقل العابرة. وقد دعا رئيس الوزراء التركي الأسبق بن علي يلدرم إلى الإسراع بتكامل السكك الحديدية العراقية مع خطوط TCDD التركية لتحقيق أهداف مشتركة لخفض زمن الشحن وتكلفة النقل، عبر خط (غازي عنتاب – شانلي أورفا – ماردين)، لضمان تدفق البضائع إلى أوربا عبر تركيا. وأشار إلى أن تركيا قامت، منذ عام 2003، بتوسيع شبكة السكك لديها بشكل لم يسبق له مثيل، مع خط عالي السرعة بين أنقرة واسطنبول، ومشاريع حديثة مثل (مارماراي)، ما خلق بنية تحتية جاهزة للاضطلاع بدور محوري أقليمي ودولي. موقف البنك الدولي ممثلو البنك الدولي أشاروا، خلال مشاركتهم في هذا المنتدى، إلى أن مشروع طريق التنمية يعد قفزة ستراتيجية إلى الأمام لتعزيز شبكة الربط بين العراق وجيرانه. وأكدوا أن إطلاق منظومة تتبع حركة الشاحنات، المزمع تنفيذها ضمن المسار البري الدولي، سيعزز عملية تنمية النقل الدولي، ويدعم فعالية حركة البضائع العابرة من خلال العراق. كما شدد وفد البنك الدولي، بقيادة مديرة إدارة البنية التحتية في البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، على أهمية المشروع كبنية تحتية متكاملة، التي تشمل السكك الحديد والطرق البرية والموانئ، لزيادة الفرص الاستثمارية وخلق آلاف الوظائف في العراق والدول المرتبطة بالطريق. كما أشار مديرو البنك الدولي أيضًا إلى أن التمويل المطلوب للمشروع سيُبنى على أساس شراكات محلية ودولية، مع دعم فني مستمر من البنك الدولي لرفع كفاءة تنفيذ المشروع وضمان تحقيق أثر اقتصادي مستدام على الصعيدين الإقليمي والعالمي. لكن المسألة ستظل مرهونة بمتطلبات عديدة، من أهمها الإصلاح المؤسسي والحوكمة الفاعلة، ومراعاة مسألة تنافسية المشروع اقتصاديًا، الى جانب استمرار حالة الاستقرار السياسي والأمني في العراق. التمثيل العراقي رغم أهمية هذا المنتدى، وتركيزه الكبير على مشروع طريق التنمية العراق، إلا أن التمثيل العراقي في هذا المنتدى كان خجولًا، إذ لم يحضر وزير النقل العراقي، وحضر بدلًا عنه مستشار رئيس الوزراء العراقي الدكتور ناصر الأسدي، الذي أبلى بلاءً حسنًا في عرض وجهة نظر الحكومة العراقية ورؤيتها لمشروع طريق التنمية، التي تتلخص بتركيز العراق على ألا يكون مشروع طريق التنمية مجرد ممر بري لعبور وتبادل الحركة التجارية للدول الأخرى باستخدام الجغرافيا العراقية، بل أن يكون كذلك مشروعًا لخلق تنمية اقتصادية مستدامة على طول مسارات الطريق، من خلال إنشاء بنية تحتية وفوقية لمدن لوجستية وصناعية تسهم في تطوير صناعات جديدة، أو خدمات قيمة مضافة، تجعل العراق منطلقًا للتصدير إلى الأسواق الاستهلاكية في أوربا شمالًا والخليج جنوبًا، وهذا التوسع التنموي يمكن أن يسهم في تطوير مدن جديدة وخلق وظائف في قطاعات متعددة تعتمد على مسارات طريق التنمية، وهذا ما يسهم في المحصلة بدعم الاقتصاد العراقي بموارد مالية غير نفطية تقلل تأثيرات حالة الريعية العالية التي يعاني منها العراق نتيجة الاعتماد العالي على إيرادات النفط. هذه الرؤية، التي عبر عنها ممثل الحكومة العراقية في هذا المنتدى، تمثل نقلة نوعية وإيجابية كبيرة، تشير إلى تطور في الأولويات لدى الحكومة، عبر التركيز على استغلال مسارات طريق التنمية لإحداث تنمية حقيقية ومتنوعة داخل العراق، كأولوية وطنية، بدلًا من التركيز فقط على مسألة الحركة التجارية العابرة للحدود لجني العوائد، كما كنا نسمع في بدايات طرح المشروع. وهذا ما يجعل النموذج الاقتصادي لمشروع طريق التنمية أكثر جدوى وتنافسية وقدرة على جذب الاستثمارات لتمويل مشاريع تطوير المدن اللوجستية، أو الموانئ الجافة، أو مراكز التوزيع، أو مراكز القيمة المضافة، التي يمكن أن تنتشر على طول الطريق، حيث أن كل مفصل من هذه المفاصل يمكن أن يكون عقدة مهمة في سلسلة التصنيع والنقل، التي تنطلق من آسيا مرورًا بمراكز إضافة القيمة واللوجستيات العراقية، وانتهاءً بمراكز الاستهلاك في أوربا، أو الخليج. ولكي تُترجم هذه الرؤية إلى مشروع حقيقي على الأرض، يحتاج العراق لصياغة وإنضاج ستراتيجية وطنية للنقل واللوجستيات، ذات خطط تنفيذية تعتمد على دراسات جدوى تجارية مخصصة لكل عقدة من عقد النقل والتصنيع، المرتبطة مع مسارات طريق التنمية، تكون جاهزة للاستثمار والتنفيذ بشكل منفصل، لكن مترابط، مع نموذج العمل العام للمشروع. وهذا قد يعد تكتيكًا ضروريًا في المرحلة المقبلة لجذب الاستثمارات بشكل مركز ومحدد، يستهدف الاستثمار في نشاط تنموي او خدمي محدد، بدلًا من طرح المشروع كحزمة شاملة واحدة، بمبلغ استثماري كبير قد لا يناسب الجهات الاستثمارية للدخول فيها. من جانب آخر، يمكن للحكومة العراقية أن تدرس -بعمق- تطبيق نموذج المشاركة بين القطاع العام العراقي والخاص، أو ما يعرف بنموذج (Public-Private Partnership – PPP) لتمويل وتشغيل وإدارة المشروع، لتجاوز العقبات التمويلية والإدارية التي تعيق تنفيذ مشروع طريق التنمية وملحقاته، إذ يمكن أن يوفّر هذا النموذج فرصًا لجذب رؤوس أموال أجنبية ومحلية، ويسهم في نقل التكنولوجيا الحديثة، وتحسين كفاءة التشغيل والصيانة، ما يخفف العبء عن الموازنة العامة، ويعزز ثقة المستثمرين، مع وجود عقود واضحة وآليات لتقاسم المخاطر والعوائد. لكن الحكومة العراقية تحتاج إلى تهيئة بيئة تشريعية وتنظيمية واضحة، تشمل إصدار قانون شامل للشراكات، وتأسيس وحدة PPP مستقلة ضمن وزارة التخطيط، أو المالية، إلى جانب تطوير معايير تقييم دقيقة للمشاريع، وضمان الشفافية والمساءلة. كذلك، يتطلب الأمر بناء قدرات مؤسسية للتفاوض وإدارة العقود، مع إشراك القطاع الخاص في مراحل التخطيط والتصميم والتنفيذ والتشغيل والإدارة، لضمان نجاح واستدامة المشروع. ومن المهم الإشارة في النهاية إلى التجربة التركية الناجحة في مشاريع PPP، التي يمكن للعراق الاستفادة منها في إنضاج وتجويد نموذج العمل الحالي لمشروع طريق التنمية.