زياد الهاشمي
دخلت منطقة جنوب القوقاز منعطفًا تاريخيًا جديدًا بعد توقيع اتفاق المصالحة بين أرمينيا وأذربيجان، الذي رعته الولايات المتحدة ورئيسها ترامب، وهو الاتفاق الذي تضمن إنشاء ممر بري ستراتيجي يربط أذربيجان بتركيا عبر جنوب أرمينيا، ويسهم في زيادة الربط الجيواقتصادي بين آسيا وأوربا، ويخلق توازنات جديدة في تلك المنطقة تكسر الهيمنة التقليدية على طرق نقل البضائع بين الأقاليم والقارات. هذه التوازنات تعيد توزيع النفوذ الاقتصادي والسياسي في المنطقة جغرافيًا، إذ إن ممر (زنغيزور) يمر بشكل رئيس عبر الأراضي الأرمنية جنوبًا، في منطقة (سيونيك) الواقعة في جنوب أرمينيا، ويربط بين أذربيجان وإقليم (نخجوان) الأذربيجاني، المعزول عن الجغرافيا الأذرية، ما يخلق شريانًا بريًا يربط بين قسمَي أذربيجان عبر أراضي أرمينيا، وتحت إشراف وسيطرة أميركية، حسب بنود الاتفاق الموقع بين الدول الثلاث، إذ ينص الاتفاق على أن يظل الممر تحت سيادة أرمينيا، مع ضمان حرية حركة البضائع والأشخاص عبره، وتجري إدارته وفَتْحه بطريقة تضمن التدفقات التجارية دون عوائق. خريطة النفوذ الأهمية الستراتيجية لهذا الممر تكمن في الاتفاق عليه بعد سنوات طوال من النزاعات العنيفة بين أرمينيا وأذربيجان حول إقليم ناغورني كاراباخ، حيث فتح الممر ربطًا مباشرًا بين أذربيجان وتركيا، ما يوفر بديلًا عن الطرق الطويلة التي كانت تمر عبر إيران، حيث تشير التقديرات إلى توفير الممر لساعات طوال من زمن النقل، إلى جانب خفض كبير في كلف العبور، وهو ما يعني توفيرًا ملموسًا في تكاليف الشحن وفتح منافذ لعبور أعداد أكبر من البضائع التجاري. هذا التطور الجديد في لعبة الممرات سيضع المنطقة في قلب معادلة جيو-اقتصادية كبرى، حيث تتقاطع مصالح الصين والولايات المتحدة وتركيا وإيران، إذ شهدت السنوات الأخيرة ازديادًا ملحوظًا في أهمية الممرات البرية الرابطة بين آسيا وأوربا، لتصبح إحدى الأدوات الرئيسة في صياغة خريطة النفوذ بين القوى العظمى، وعلى رأسها الصين والولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، كانت مبادرة الحزام والطريق، التي أطلقتها الصين قبل أكثر من عشر سنوات، التي ضخت فيها استثمارات تجاوزت التريليون دولار، وكان من ضمنها إنشاء شبكة بنية تحتية ضخمة للنقل السككي، تستهدف ربط مراكز التصنيع الصينية مع الأسواق العالمية، وخاصة الأوربية منها، التي تمثل أحد المراكز الاستهلاكية الرئيسة للمنتجات الصينية، من خلال تأسيس ما يسمى بالممر الشمالي المار من خلال روسيا نحو دول أوربا، الذي أسهم كثيرًا في تسهيل نقل كميات كبيرة من البضائع من الصين الى أوربا. مخاطر الحرب ومع ارتفاع الطلب الأوروبي على خدمات النقل السككي السريع من الصين، وزيادة مخاطر الحروب على انسيابية حركة البضائع، فقد اتجهت الصين لتأسيس مسار جديد باسم (الممر الأوسط)، ينطلق من الصين إلى أوربا، ولكن عبر دول القوقاز وتركيا، بعيدًا عن الجغرافيا الروسية الواقعة تحت تأثيرات مخاطر الحرب مع أوكرانيا. لذلك، ومن الناحية الاقتصادية، تدرك الصين أن أي ممر بري جديد يربط آسيا بأوربا يمكن أن يكون فرصة إضافية لتعزيز مبادرة الحزام والطريق. من جانب آخر، فإن الولايات المتحدة، برغم حصولها على اتفاق طويل الأمد (99 سنة) لتشغيل وإدارة ممر زنغيزور الأرميني، فإن هذه المسألة من الناحية الاقتصادية والتجارية ستحمل العديد من التحديات للجانب الأميركي، فكما هو معروف، فإن إنشاء وتشغيل وإدارة المسارات السككية الدولية تتطلب كلف مالية كبيرة، ولا يمكن لأية شركة، أو حتى حكومة، الاستمرار في تحمل تلك الكلف لفترات طويلة دون توفر تدفقات كبيرة ومستمرة من البضائع، التي يمكن من خلالها تغطية كلف التشغيل والحصول على بعض الهوامش الربحية. لذلك سيبقى الممر الأميركي الأرميني غير مكتمل الأركان، ولا يملك الجدوى والاستدامة اللازمة، إن لم يتم فتح هذا الممر أمام كبار المستخدمين، ولاسيما الصين، للاستفادة منه وربطه مع شبكة ممرها الأوسط الجديد، لكون الصين هي وحدها القادرة على توفير تدفقات كبيرة ومستمرة للبضائع عبر مسارات الممر الأميركي الأرميني، وبالتالي تحقيق الجدوى الاقتصادية المطلوبة منه. عدا ذلك، فإن هذا الممر سيولد عجزًا ماليًا كبيرًا يهدد بإفشال المشروع بسبب ارتفاع تكاليف التشغيل والصيانة. وقد أشارت بعض التقديرات إلى أن العوائد المحتملة، في حالة دخول الصين كمستخدم رئيس لمسارات هذا الممر، قد تصل إلى مليارات عدة من الدولارات سنويًا على المدى الطويل، مع فرص توظيف كبيرة وعوائد لوجستية متزايدة تدعم اقتصادات أذربيجان وأرمينيا، وتحول تركيا إلى مركز نقل عالمي. فرص مستقبلية هذه الحقائق قد تجعل الولايات المتحدة أمام مفترق طرق جيوسياسي صعب، فمشروع ممر ترامب يحمل فرص ربح وخسارة في آنٍ معًا، إذ إن نجاح المشروع يعني توسيع رقعة النفوذ الأميركي وعرقلة طرق نفوذ روسيا وإيران عبر جنوب القوقاز، لكن تحقيق النجاح لهذا الممر مرهون بمدى قدرة واشنطن على التوصل إلى اتفاقات تعاون اقتصادي مع الصين، عدوتها الاقتصادية اللدودة، للسماح لها بالاستفادة من هذا الممر لتصدير بضائعها نحو أوربا، وخلق عوائد تغطي الكلف التشغيلية الضخمة لهذا الممر. الصين، من جانبها، ستراقب وضع هذا الممر عن كثب لاستكشاف الفرص المستقبلية الممكنة للاستفادة منه كممر بري محتمل لتحقيق ربط بري ستراتيجي مستدام بين مراكزها التصنيعية والأسواق الأوربية، لكن، من الناحية الجيوسياسية، ستتعامل الصين بحذر مع هذا الملف، فهي لا تريد أن تظهر وكأنها تسير في ممر أنشأته واشنطن، بما قد يفسر كتراجع ستراتيجي أمام الولايات المتحدة. بل ستتعامل على الأرجح مع الممر بشكل عملي، أي أنها ستحرص على الوصول إلى اتفاقية مع الولايات المتحدة للاستفادة من الممر كخيار إضافي ضمن مسارات (الممر الأوسط)، مع تجنّب أية التزامات سياسية تجعل من الاتفاقية أداة أميركية ضاغطة عليها، بل ستبحث عن اتفاقية رابح-رابح متوازنة تضمن للصين ممرًا مفتوحًا أمام تجارتها، وتضمن للولايات المتحدة عوائد مالية تمكنها من استدامة عمل هذا الممر الحيوي. لذلك، يمكن القول، ختامًا، إن ممر ترامب سيبقى مشروعًا محفوفًا بالفرص والتحديات، بين وعود بخلق شريان تجاري عالمي جديد، ومخاطر حسابات سياسية واقتصادية معقدة، وسيعتمد نجاحه على قدرة واشنطن وبكين في خلق مساحة لتعاون براغماتي يخدم مصالحهما، وينعكس إيجابًا على حركة التجارة والمصالح بين القارات.
