100%
أحمد سعداوي
يأتي الإلهام لكثير من الأدباء في لحظات الهدوء والسكينة وتعب الجسد، أو أوقات ما قبل النوم، لكن الكوابيس والأحلام لها مكانة خاصّة. لقد أنجزت ميري شيللي رواية (فرانكشتاين) في 1816 بسبب كابوس داهمها خلال النوم، عن عالِم ينشئ إنسانًا، ثم يرتعب مما صنعت يداه.
العديد من القصص التي كتبها إدغار آلان بو كانت من وحي أحلامه وكوابيسه. روايات شهيرة مثل (دكتور جيكل ومستر هايد) لستيفنسون، و(دراكولا) لبرام ستوكر، ورواية (المسخ) لكافكا، والكثير من الأعمال الأخرى جاءت لمؤلفيها خلال الحلم.
في كتابه (الكاتب وكوابيسه) ينقل الروائي الأرجنتيني الشهير إرنستوا ساباتو كوابيس الكاتب إلى منطقة أعمق، فهي جزء من جوهر الإبداع، فالكاتب الحقيقي ليس مجرّد صانع حكايات، وإنما إنسان تعذّبه الأسئلة، وتطارده كوابيس الوجود والموت والعدم والحريّة والشرّ. الكوابيس هنا مجاز وتمثيل عن القلق الداخلي واعتمالات النفس المعقّدة، التي يتعامل معها الكاتب، فهي هنا ليست مجرّد عرض جانبي، بل هي المادّة الخام للكتابة. ومثلما تعكس الكوابيس الفعلية صراعات الإنسان خلال النهار، فإنها تبدو مثل مرآة داخلية أكثر صدقًا من تحفّظات الإنسان في حياته الواقعية، بسبب الأعراف والمجاملات ورغبته بأن يرى نفسه أقوى وأكثر اتساقًا وتماسكًا.
يذكر ميلان كونديرا شيئًا مقاربًا، حين يمتدح (هبات اللاوعي)، تلك التي تنبثق من الداخل من دون استدعاء أو تحضير مسبّق. فهو يرى أن الرواية العظيمة تُكتب حينما "تتدفق من مكان لا تسكنه المعادلات المنطقية."
إن هذه التصوّرات تجعل الكاتب دائمًا في حالة من الاستعداد لاحتضان هبات اللاوعي أو كوابيسه، والتعامل معها بامتنان، وتجعله دائمًا عند تلك الحافّة، أو الحدود، ما بين الأشياء الصلبة والهشّة، ما بين العالم الواقعي المضاء بأنوار ساطعة، وعالم الأشباح في الظلال والعتمة.
إن الأدب، بهذا المعنى، ليس مهنة، يمكن أن تبدأ في ساعة محدّدة وتنتهي عند ساعة أخرى، وإنما، حسب كونديرا، "طريقة في فهم الوجود." وأن تكون كاتبًا، حسب ساباتو "لا يعني أن تكتب، بل أن تعيش في قلب عاصفة داخلية لا تنطفئ."
إن كوابيس الكاتب، في الحقيقة، أو نشاط اللاوعي، الذي يتمرأى على شكل كوابيس، تتابع النشاط الذهني للكاتب في حياته الواقعية، فما دام مشغولًا بتقليب الخيارات الخيالية من أجل الكتابة، وما دام يملك حساسية عالية لالتقاط المفردات الواقعية ومعالجتها، أو رهافة الحسّ في التعاطي مع المآسي الإنسانية ومختلف التجارب العاطفية، فإن عمل اللاوعي خلال النوم سيغدو أشبه بشوط عملٍ ثانٍ للمخيّلة، ولكنه هنا لا يخضع لسيطرة الكاتب.
إنها أشبه بطاولة كتابة توضع في عالم الأحلام والكوابيس لكاتب آخر يرقد، خلال النهار، نائمًا في ذات الكاتب.