100%
ريا عاصي
تصوير / خضير العتابي
مع بزوغ شمس الخميس 17 تموز 2025، يتوافد أبناء الطائفة الصابئية المندائية في العراق إلى ضفاف الأنهار، مرتدين ملابسهم البيض التقليدية المعروفة بـ(الرِستة)، لأداء طقوس التعميد في المياه الجارية. حيث يصادف (دهوا ربا)، أي العيد الكبير، رأس السنة الدينية لدى أقدم طائفة موحّدة في بلاد ما بين النهرين، وفيه تتجدد الحياة بالضوء والماء.
متى يبدأ العيد؟ وما رمزيته؟
يُصادف عيد (دهوا ربا) في اليوم الأول من شهر تموز المندائي، وهو شهر مقدّس يُفتتح بخمسة أيام تُعرف بـ(البرونايا) أو (البيّنجة)، يُعتقد أنها أيام النور الخالص الذي خُلق فيه الكون، بحسب العقيدة المندائية. يُعدّ هذا العيد أقدس أعياد الطائفة، ويؤذن ببداية سنة جديدة تُغتسل فيها الأرواح من خطايا العام المنصرم، ويتهيأ المؤمنون للدخول في مرحلة نورانية جديدة.
طقوس البرونايا والاعتكاف
في الليلة التي تسبق العيد، تبدأ طقوس (الاعتكاف)، إذ يلزم الصابئة منازلهم مدة 36 ساعة، يقطعون خلالها التواصل مع العالم الخارجي، ولا يُغادرون بيوتهم حتى شروق شمس العيد. يُعتقد أن الملائكة تعود إلى عالم النور في تلك الساعات، ويُصبح الإنسان معرضًا للتأثيرات الروحية، لذا فإن العزلة والتأمل فرض واجب.
قبل ذلك، خلال أيام البرونايا الخمسة، يمارس رجال الدين طقوس التعميد الجماعي والتضرع، وتُعتبر هذه الأيام (خارج الزمن)، أي أنها لا تُحسب من أيام السنة، بل هي هدية من العالم النوراني.
فجر النهر.. وبداية التعميد
مع أول ضوء للشمس، يتجه المندائيون إلى ضفاف دجلة أو الفرات، حيث تجري المياه الحية (يردنا)، ليؤدوا طقوس التعميد التي تُعدّ الركيزة الأساسية لديانتهم. يقود رجال الدين المراسم التي تشمل:
التعميد بالماء الجاري ثلاث مرات وتناول (اللوفاني)، وهو خبز مقدّس يُطهى خصيصًا لهذا اليوم، وتلاوة الأدعية من كتاب (الكنزا ربا - الكنز العظيم)، أقدس كتبهم.
في مناطق مثل الجادرية في بغداد، والعمارة في ميسان، والناصرية في ذي قار، تتكرر هذه المشاهد منذ آلاف السنين، وسط احترام مجتمعي واضح، برغم كون الصابئة أقلية دينية.
العيد في ظل التحديات
يُحيي المندائيون عيدهم هذا العام وسط أجواء روحانية، لكن لا تغيب عنها الهواجس. فقد تقلصت أعداد الطائفة في العراق إلى بضعة آلاف فقط، بعد أن كانت حاضرة في الحِرف اليدوية والمجتمع المدني لعقود طوال.
يقول الشيخ كنزبرا ستار جبار حلو، رئيس الطائفة الصابئية في العراق والعالم:
"برغم الغربة والظروف الصعبة، نحافظ على تقاليدنا لأننا أبناء هذه الأرض، نؤمن بالنور وبالعراق معًا."
الهوية المندائية.. ماء لا يجف
بعيدًا عن المظاهر الاحتفالية، يعبّر (دهوا ربا) عن هوية دينية عميقة الجذور في حضارات وادي الرافدين. يُعرف الصابئة بإيمانهم بالله الواحد، وبتقديسهم النبي يحيى (يوحنا المعمدان)، وطقوسهم التي لا تزال تُمارس بالآرامية المندائية القديمة.
وبرغم ما مرّوا به من هجرة واغتراب وضغوط اجتماعية، فإن التمسك بالماء والنور والصدق بقي جوهر ديانتهم، وعيدهم الكبير يُذكّر العراقيين بتنوعهم الثري، وبأن النهر لا يعرف الطائفية.
(دهوا ربا) ليس عيدًا فقط، بل وثيقة حيّة على بقاء التنوع الديني والثقافي في العراق. فمن على ضفاف دجلة والفرات، يحتفل المندائيون بالحياة، بالنور، وبالأمل المتجدد.