المندائيون في ميسان.. عمق التاريخ وجذور الطيب

تحقيقات

المندائيون في ميسان..  عمق التاريخ وجذور الطيب
100%
ميسان / عبد الحسين بريسم تصوير/ حسين طالب في الجنوب، حيث تتهادى الأنهار ويتموّج قصبها كأهداب امرأة سومرية، تعيش طائفة المندائيين في مدينة ميسان منذ قرون طوال. هنا، في الطيب، تنبض ذاكرة الأرض بسيرة شعب آمن بالنور والماء، واحتفظ بطقوسه الأولى في وجه التحولات والتهميش. المندائيون، أو كما يسمّيهم أهل الجنوب بـ(الصابئة)، هم أتباع ديانة توحيدية قديمة، تعود جذورها إلى زمن النبي آدم، ويمتد نسبهم الديني إلى النبي يحيى (يوحنا المعمدان). ويعتقدون أن النور هو أصل الكون، وأن الحياة تبدأ وتنتهي في الماء، لذا فإن التعميد ليس مجرد طقس ديني لديهم، بل فلسفة وجودية تؤطر علاقتهم بالعالم والخلق. الصائع المندائي الكاتب جاسم الأنصاري، أحد أبرز الأصوات الثقافية في ميسان، يصفهم قائلًا: "المندائيون عاشوا بسلام وسط المجتمع الجنوبي، لم يخاصموا أحدًا، ولم ينازعوا على سلطة، بل تركوا أثرهم في صياغة الذهب وفي بياض ردائهم، وفي تقاليدهم التي جمعت بين الزهد والحكمة." ويتابع: "حين تنظر إلى الصائغ المندائي، تجد أنه لا يصوغ المعدن فقط، بل يصوغ الهدوء في ملامح المدينة." وتحتفظ مدينة العمارة بقصة (زهرون عمارة)، الجد الأعلى للشاعرة لميعة عباس عمارة، الذي كان أحد أشهر صاغة الذهب، الذي وصلت شهرته إلى بلاط القياصرة. ورغم أن مقبرته اليوم تقع في أطراف ناحية المشرح وقد طواها الإهمال، إلا أن اسمه لا يزال حاضرًا في القصائد والروايات الشفوية لأهالي ميسان. الماء والحياة في نهاية كل عام ديني، يحتفل المندائيون بـ(برونايا) أو (البنجة)، وهي خمسة أيام تُعتبر (خارج الزمن)، لا تُحسب من أيام السنة، لكنها تُعدّ الأكثر قداسة في معتقدهم. في هذه الأيام، تُضاء الشموع في القلوب قبل البيوت، وتُنقّى الأرواح بالماء الجاري، حيث يؤدّي رجال الدين طقوس التعميد بشكل مكثف، وتُقام الأدعية والتراتيل، وتُوزّع الصدقات والولائم، في تقليد ديني يعزز التكافل والطهارة. عهود روحية يشرح الدكتور خزعل الماجدي، المتخصص في الميثولوجيا والديانات القديمة، أهمية هذه الأيام بقوله: "هي فترة النور الخالص، إذ يُعتقد أن السماء تُفتح، وتقترب الأرواح الطاهرة من الأرض. يجري فيها تكريس كل يوم لملك من الملائكة الروحيين، وتُجدَّد العهود الروحية، ويُعاد خلق الكون رمزيًا." خلال (برونايا)، يرتدي الجميع، رجالًا ونساءً، الرداء الأبيض (الرستا)، ويتجمعون عند ضفاف الأنهار، حيث يجري الطقس الأهم: التعميد المتكرر، كرمز للتطهير من الذنوب والتجدد الروحي. هذا الطقس يُعدّ جوهر الديانة المندائية، ويتميّز بمراسم دقيقة، تبدأ بقراءة الأدعية من كتاب (الكنزا ربا)، وتستمر بالغطس الكامل في الماء ثلاث مرات، ثم شرب ماء الحياة، وتناول الخبز النباتي (البيثاه). (برونايا) ليس فقط مناسبة روحية، بل أيضًا موسم اجتماعي تُستعاد فيه روابط المجتمع المندائي، وتُصلح فيه العلاقات، وتُعاد صلة الرحم، وهو ما يجعله من أندر الأعياد الدينية التي تمتزج فيها القداسة بالعاطفة الاجتماعية. ذاكرة الأرض ميسان، التي كانت تُعرف تاريخيًا بـ (أرض القصب والنخيل)، تضم إرثًا أثريًا يعكس عمق التواجد المندائي فيها. مرتضى الأعرجي، مفتش آثار وتراث ميسان، يشير إلى أن منطقة الطيب تحتضن واحدًا من أقدم المواقع الأثرية المرتبطة بالمندائيين، وهو (تل أبو شيجة)، الذي يعود تاريخه إلى العصر الأكدي (القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد). في هذا الموقع، اكتشف علماء الآثار عام 2007 معبدًا بيضوي الشكل، يُعتقد أنه استخدم للعبادة الروحية. ما يميّز هذا المعبد هو تصميمه الفريد، الذي لا مثيل له في العراق سوى في موقع أشنونا بمحافظة ديالى، ما يدل على خصوصية العمارة المندائية. كما عُثر على تمثال رخامي للإله (شودا)، أحد الآلهة المرتبطة بالمعتقدات البابلية-المندائية، وهو مُهدى من الحاكم الأكدي (شورا بيل)، حفيد سرجون الأكدي. هذه القطع تكشف عن مدى التداخل بين الحضارات، وتدل على أن المندائيين لم يكونوا طائفة هامشية، بل كانوا فاعلين في قلب النسيج الحضاري لبلاد الرافدين. يؤكد المؤرخ حيدر الساعدي أن "ما نملكه من آثار هو مجرد رأس جبل الجليد، لأن معظم المواقع لم تُنقّب بعد، ولاسيما في ناحيتي الطيب والمشرّح، وأن غياب الاهتمام الرسمي، وانعدام الوعي المجتمعي، قد يؤديان إلى اندثار هذه الشواهد الثمينة." كما أن الرموز الطقسية التي لا تزال تُستخدم اليوم – من الرداء الأبيض إلى عصا الزيتون وأغصان الآس – تعكس استمرارية حضارية مدهشة، وتحمل في تفاصيلها فلسفة متكاملة تربط الإنسان بالطبيعة والنور والخلق.

إقــــرأ المــــزيــــــــد

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال
تحقيقات

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي
تحقيقات

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي

حياة بلا تواصل اجتماعي..  هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟
تحقيقات

حياة بلا تواصل اجتماعي.. هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟
تحقيقات

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي
تحقيقات

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"
تحقيقات

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"

أبرز الأخبار

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

قصة إعدام الفنان صباح السهل

قصة إعدام الفنان صباح السهل

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج