100%
صفاء أنصاف
لم تكن الأساطير، بوضعها العام، نتيجة لخيالات لا صحّة لها. وبما أنَّنا ما زلنا ندرس الأسطورة اليوم كما وجدناها في الرقم الطينية من دون أية تغييرات على النص الأصلي، فإنَّنا نلاحظ التفاوت الكبير بين عقل الإنسان البدائي (حسب ما يقال) وعقل الإنسان المتطور(الحالي).
إنسان الكهوف والمغارات في العراق القديم، كان يوضّح أفكاره عبر رسومات لا تخرج عن محور حياته اليومية، وهذه الرسومات، حيثما وجدت، فإنَّها تنبئ عن عقلية متفتحة لهذا الإنسان (البدائي) لم ندرسها الدرس الكافي حتَّى هذا الوقت.
ومن ثم انتقل الإنسان العراقي من مرحلة الكهوف والمغاور إلى التمدّن والاستقرار، قبل أن تكون هناك مدن بمعناها الكامل، وعند هذه النقطة بدأت الكتابة بالتطوّر حتَّى تحوّلت من الكتابة الصورية، وبصورة تدريجية إلى الكتابة المسمارية، وهي نوع من الرموز على شكل مسامير تشكّل كلمات معيّنة لم يُفقه منها شيء حتَّى حُلِّت هذه الرموز في بداية القرن العشرين.
تطوّر الكتابة
ويفترض بعض الباحثين أنَّ تطوّر الكتابة كان لحاجة المعبد (بالتحديد) للمراسلات السرّية بينها وتدوين مواردها الاقتصادية والمعاملات التجارية. وليس اعتباطاً عندما قال كريمر (التاريخ يبدأ من سومر)، وذلك لسببين: الأوّل وجود مقابر في سومر ترقى إلى مئات الآلاف من السنين، ولا سيّما في أور. والمقابر لا تدلُّ إلاَّ على التمدن والحضارة، فالبدوي يدفن موتاه أيَّنما حلَّ، أمَّا المتحضّر فإنَّه ينشئ مقابر تتطوّر كلَّما طالت مدّة استقراره. والسبب الثاني: إنَّ الكتابة المسمارية نوع متطوّر جدَّاً عن الكتابة الصورية، لأنَّها (المسمارية) عبارة عن رموز محدّدة ومتفق عليها بين أبناء الجماعة. أمَّا الكتابة الصورية فإنَّها اعتباطية (كتابياً) أي أنَّك إن أردت توضيح جملة معيّنة لرسمت كلمات هذه الجملة كلّها، وهذا ما كانت أقرب إليه الكتابة الهيروغليفية (المصرية القديمة). وللفرق بين الكتابة المسمارية والكتابة الهيروغليفية استدلَّ علماء الآثار على أنَّ السومريين عرفوا الكتابة قبل الفراعنة بقرون طويلة، ومن ثمَّ قبل العالم كلّه.
ويعتقد بعضهم أنَّ الاهتداء إلى الكتابة جرى من قبل أقوام أخرى سبقت السومريين في استيطان وادي الرافدين أطلق عليهم العلماء اسم (الفراتيين الأوائل) بدلالة ظهور بعض المفردات اللغوية في النصوص المسمارية التي لا تمت بصلة إلى اللغة السومرية ولا إلى أيَّة لغة أخرى معروفة، منها أسماء الكثير من المدن السومرية كمدينة أور ولكش وكيش وغيرها، وكذلك أسماء نهري دجلة والفرات، فضلاً عن بعض المظاهر الحضارية التي وجدت متطوّرة في الفترة السومرية؛ حسب ما ترى الدكتورة بهيجة خليل إسماعيل. وما زالت فكرة (الفراتيين الأوائل)، فرضية إذ لم يصل إلينا أيُّ نصٍّ مكتوب منهم.
تقديس المعرفة
نستدل من كلام برعوشا بيروسس (المؤرخ البابلي) في كتابه (البابليات) الذي لم يصلنا منه سوى بعض الشذرات، أنَّه عندما جاء خبر الطوفان إلى زيوسيدرا أمر بأن تحفر حفرة وتدفن فيها بدايات وأواسط ونهايات الكتابات (أي الكتابات كلّها) على حدِّ تعبير النص، وبعد أن رست سفينة زيوسيدرا على شاطئ السلامة نزل هو وزوجته وابنته وملّاحه، ولكنَّهم سرعان ما اختفوا.
وحينما نزل من بقي من القوم ليبحثوا عنهم سمعوا هاتفًا يقول لهم إنَّ زيوسيدرا سوف يسكن مع الآلهة جزاء أعماله الصالحة وكذلك بقية صحبه.
ثمَّ أمرهم الهاتف قائلًا أن يتوجّهوا إلى بلاد بابل، وأن يستعيدوا الكتابات وينشروها بين الناس، بحسب العلاّمة الدكتور فاضل عبد الواحد علي.
يلاحظ في هذا النص أمران، الأوّل أنَّ الكتابة اخترعت قبل الطوفان، وبما أنَّ زمن الطوفان يقدّر بحدود 3000 ق.م، إذن لا يقل زمن اختراع الكتابة عن 3200 ق.م كما هو معروف لدى العلماء. الأمر الثاني هو تقدير، بل تقديس السومريين للمعرفة أو الألواح، ومن ثمَّ تقديسهم الكتابة وتاريخ مدينتهم، ومن ثمَّ الحضارة السومرية.
أول النصوص
إذا كانت اللغة السومرية أوّل لغة تكتب بالخط المسماري، وهو أول خط عرف في تاريخ الحضارات القديمة، فلا بدَّ أن تكون النصوص الأدبية السومرية هي أول نصوص مدوّنة، ويُعتقد أنَّ سبب السبق في تدوين هذه النصوص هو الشعائر الدينية التي كانت تقام في المعابد، كالزواج المقدّس لدى السومريين، أو احتفالات رأس السنة، أو تنصيب ملك جديد، أو كاهن تختاره الآلهة.
يقسّم الأدب السومري القديم إلى أبواب، بحسب ما جرى جرده أو تبويبه حديثاً، يمكن أن نلخصّها بـ(أساطير الخليقة وأصل الأشياء)، و(الملاحم وقصص البطولة والأبطال)، و(أدب الحكمة)، و(نصوص الطوفان)، و(التراتيل والغزل السومري)، و(أدب السخرية) و(أدب الرثاء وأساطير العالم الأسفل)، إذ تندرج تحت كلِّ باب آلاف الألواح ومئات القصائد والمقطوعات الأدبية، سواءً الشعرية منها أو النثرية، لهذا فإنَّ هناك نماذج عدّة يمكن أن توضح مناهج أو كيفية تشكيل هذا الأدب، منها: أناشيد الحب السومرية، أدب السخرية، ونصوص المسرح السومري.