100%
حوار/ زياد جسام
في زمن تزدحم فيه الساحة الثقافية بالكتابة السريعة ومنصات التواصل، يظل للنقد الأدبي صوته الخاص وضرورته الملحة. وتمثل الناقدة د. نادية هناوي سعدون واحدًا من أبرز الأصوات المراهنة على النقد بوصفه معرفةً وفكرًا، ليس فقط بفضل حضورها الأكاديمي، بل لما أنجزته من مشروعات نقدية نوعية، أرست من خلالها مفاهيم جديدة، مثل (العبور الأجناسي) و(الأقلمة السردية). في هذا الحوار نتوقف معها عند اسئلة النقد وموقعه اليوم، مسلطين الضوء على رؤيتها الخاصة للعلاقة بين الناقد والأديب، في ظل تحولات المشهد الثقافي العربي، حوار ابتدأناه بسؤال:
*كيف ترين موقع النقد الأدبي اليوم في المشهد الثقافي العربي؟ هل تراجعت مكانته أمام طغيان وسائل التواصل والكتابة السريعة؟
- يحتل النقد الأدبي اليوم موقعًا أثيرًا وخاصًا في المشهد الثقافي العربي لسببين: الأول ما يشغله هذا النقد من مساحة في الصحافة الثقافية؛ إذ أن له النصيب الأوفر في ما ينشر فيها من مقالات ومتابعات. والسبب الثاني ما يشكله النقد الأدبي من ثقل في المحافل الأدبية والملتقيات الفكرية. أما وسائل التواصل الاجتماعي، على تنوعها وكثرة منافذ التفاعل من خلالها، فلا خوف على النقد الأدبي منها. وكل ما يترشح عن هذه الوسائل من مسائل سلبية لا يعدو أن يكون طارئًا، إذ سرعان ما ينتهي تأثيره بزوال الدوافع المسببة له، وهي بالعموم آنية.
*في مقالاتك وأبحاثك تميلين إلى النقد الفلسفي والمعرفي للنصوص الأدبية، ما الذي يجذبك في هذا النوع من الاشتغال؟
- النقد الأدبي حقل معرفي يتماس بشكل مباشر مع مختلف صنوف المعرفة الإنسانية، ولا مناص للناقد من أن يتسلح بالمعرفة كي يؤدي وظيفته على أتم وجه. وما من معرفة يكتسبها الناقد إن لم يكن لديه وازع داخلي بممارسة الفكر النظري مع التهيئة والتحشيد الكاملين باتجاه التعمق العلمي والمداومة المنهجية. هذا إلى جانب كثرة المران والمواكبة المستمرة والتكريس التخصصي وغير التخصصي لكل ما له صلة بالنقد الأدبي، وهذه أمور ليس عسيرًا خوضها، غير أن ليس كل ناقد هو مؤهلًا لأن يؤديها، كونها تتطلب فهمًا ودراية بمسالك الفكر النقدي ومظانّه الفلسفية. أما ما يجذبني نحو هذا النوع من الاشتغال فيتأتى في المقام الأول من حاجتي إلى بناء جهاز مفاهيمي خاص بي. وفي المقام الثاني يتأتى من رغبتي في محاورة النقد الغربي بقصد اختبار قواعده وفروض منهجياته ومساءلة آليات عمله.
*كيف تقيّمين العلاقة بين الناقد والمبدع في العراق؟ هل هناك فجوة حقيقية أم مجرد حساسيات ظرفية؟
- اسمح لي أن أستبدل كلمة المبدع بالأديب، لأن المبدع كائن جمالي، وعلاقته بالناقد طبيعية وإبداعه سبب مهم من أسباب ديمومة النقد ونجاحه. أما الأدباء، فإن فئاتهم مختلطة، وعلاقتهم بالنقاد منذ القدم ليست على ما يرام؛ لأسباب بعض منها يخص الناقد نفسه حين يفتقر إلى الأدوات أو حين يخالف مسؤولياته عامدًا إلى المداهنة أو التحامل. وبعض من الأسباب يتعلق بالأديب نفسه حين ينظر إلى الناقد جسرًا للعبور صوب ضفة الأدب، أو حين يعمد الأديب إلى اتباع أساليب غير سوية بقصد استمالة الناقد؛ مرة بملاحقته وإقلاق راحته ليل نهار، ومرات عدة بإهداء نتاجاته إليه ثم مطاردته بمناسبة وغير مناسبة من أجل الكتابة عنها.
*لك اشتغالات مهمة على مفاهيم مثل (العبور الأجناسي) و(رواية التاريخ) و(الأقلمة السردية)، كيف يتفاعل القارئ العراقي مع هذه المصطلحات والمقاربات؟
- اؤمن بأن في الأدب العربي القديم والحديث مواطن إبداعية ذات خصوصية، تحتاج منا، نحن النقاد، أن نشمِّر عن طاقاتنا، ونتكاتف من أجل التدليل على جماليات أدبنا. وهذا أمر أُحشد له كل ما عندي من طاقات، وأبذل في سبيله الجهود تلو الجهود. ولقد أوصلني ذلك إلى رؤى وتصورات خاصة، تمكنت -بحمد الله- من تطويرها إلى أن صارت نظرية قائمة بذاتها. وما ذكرته من مفاهيم في سؤالك إنما هو جزء من مشروع نقدي كبير أعمل على ترسيخ أسسه. وقد بلغ تعداد كتبي في ما يتعلق بنظرية العبور الاجناسي خمسة، في حين بلغ تعداد ما يتعلق بالأقلمة السردية أربعة.
*هناك من يرى أن الجامعات العراقية ما تزال تشتغل بالنقد الكلاسيكي دون مغامرات نقدية حقيقية.. ما تعليقك؟
- الحال في هذا المجال لا يسر، ومن الصعب أن أوجز ظواهره السلبية هنا. فالتراجع هائل وكبير في المستويات العلمية والأنشطة الثقافية. أما الطارئون على النقد - ممن يتصورون أن تدريس مادة النقد والبلاغة والنحو والمطالعة تجعلهم نقاد أدب - فحدِّث ولا حرج. هذا إلى جانب الافتقار إلى المحفزات التي تدفع بالأستاذ الجامعي إلى تطوير نفسه. والمحصلة أن الأستاذ الذي يبحث عن التجديد والابتكار، مستندًا إلى ما عنده من امكانيات واستعدادات ذاتية، سرعان ما يجد نفسه في وسط طارد ينبذه، إن لم يحاربه بوسائل تصل أحيانًا إلى مستوى دنيء وسافر.
*كيف ترين دور المرأة الناقدة في الثقافة العربية؟ وهل تعانين شخصيًا من تحيزات بسبب كونك امرأة تكتب في حقل النقد؟
- منذ أن شق النقد الأدبي العربي طريقه المعرفي، في النصف الثاني من القرن العشرين، وعدد الناقدات لا يتعدى أصابع اليدين. وليس في هذا الأمر غرابة؛ فالمرأة، أديبة أو غير أديبة، هي مضطهدة ومقهورة في مجتمعاتنا العربية. وعلى الرغم مما قطعته الناقدات من أشواط خلال العقود المنصرمة، فإن عوائق كثيرة لا تزال توضع في طريق تقدمهن، وشخصيًا أواجه هذه العوائق بروح وثّابة، وأتصدى للتحيز بما لديَّ من أدوات نقدية، وإيماني مطلق بأن السير في مضمار النقد الأدبي بصبر ومطاولة وإخلاص هو ما يوصل إلى تحقيق الإضافة المعرفية.
*ماذا عن تجربتك الشخصية؟ متى بدأت تشعرين أن لك صوتًا خاصًا ومختلفًا في الكتابة النقدية؟
- نافت مسيرتي النقدية على العقدين، ألَّفتُ خلالهما كتبًا ودراسات ومقالات، وقدمتُ كثيرًا من الإسهامات على طريق التواصل المعرفي والإبداعي. وبثقة أقول إن تجربتي النقدية شمولية، تهتم بمختلف الأجناس الأدبية، سردًا وشعرًا، كما ترود ميادين العلوم الإنسانية المختلفة، كالاجتماع والسياسة والتاريخ واللغة والفلسفة وعلم النفس والميثولوجيا. وهذا ما أفاد في تعزيز مشروعي النقدي الذي وصفه بعض نقادنا المحترمين بأنه انقلابي، وأنا مقتنعة بذلك.
وبسبب ما طرقته من مسائل شائكة تتعلق بعبور الأجناس الأدبية، وتناولي قضايا مستجدة على صعيد النقد العالمي في مجال السرديات غير الطبيعية، خاصة، والعلوم السردية ما بعد الكلاسيكية عامة، تلقى كتبي ترحيبًا من لدن كبار النقاد العراقيين والعرب.
وبخصوص الشق الثاني من سؤالك، أقول إني منذ أن وضعتُ خطواتي على أعتاب البحث العلمي والسعي إلى التجديد والإضافة هو نهجي ومنهجي. وأعتقد أن هذا ما يُكسب مشروعي اختلافًا ومغايرة عما هو مألوف في النقد الأدبي العربي.