100%
ريا عاصي
في بغداد، لا شيء يختفي تمامًا. حتى حين يُهدم جدار، أو تُطمس ملامح شارع، تظل ذاكرة المدينة أعمق من أن تمحى. هنا، في الأزقة الضيقة والأسواق العتيقة، يمكنك أن تشعر بأنفاس القرون الماضية. لكن ماذا عن بوابات بغداد؟ تلك الأبواب الضخمة التي كانت يومًا ما مداخل لعاصمةٍ اعتقدت أنها مركز العالم؟ هل بقي منها شيء، أم أن التاريخ طوى صفحته الأخيرة؟
مدينة الأسوار
حين قرر أبو جعفر المنصور بناء بغداد، لم يكن يفكر فقط في عاصمة إدارية، بل في مدينة حصينة، تحرسها أسوارٌ عالية وبوابات ضخمة. كانت هناك أربعة أبواب رئيسة: باب خراسان، وباب الشام، وباب الكوفة، وباب البصرة. كل باب منها كان ممرًا للحياة، تجار يعبرون، قوافل تأتي وتغادر، وجنود يحرسون المدينة من غزوٍ محتمل.
لكن بغداد، التي لم تستطع أسوارها أن تحميها من الغزاة، شهدت سقوط بواباتها واحدة تلو الأخرى. جاء المغول، وبعدهم العثمانيون، ثم البريطانيون، فغابت البوابات وبقيت الأسماء. واليوم، لا تزال بعض المناطق تحمل أسماءها، كأنها ترفض الاعتراف بالغياب الكامل.
اسمٌ دون باب
في بغداد الحديثة، لا يزال الناس يقولون (باب المعظم)، لكن لا أحد يستطيع أن يشير إلى بوابةٍ حقيقية. الاسم وحده هو ما تبقى، مجرد صدى لماضٍ لم يعد موجودًا. في هذا المكان، حيث تلتقي الضوضاء بالذاكرة، قامت مبانٍ حكومية ومؤسسات أكاديمية، وذابت ملامح التاريخ في زحام المدينة.
أما الباب الوسطاني، فهو آخر ما تبقى من بوابات بغداد العباسية. يقف هناك كقطعةٍ من زمن آخر، وحيدًا، يحاصره الإهمال والتصدعات. لا أحد يتوقف أمامه طويلًا، كأنه مجرد جدار عتيق، وليس شاهدًا على قرونٍ من التحولات.
إنعاش السياحة
الآن، ونحن في عام 2025، تحمل بغداد لقب عاصمة السياحة العربية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: أية سياحة نريد إنعاشها؟ هل هي سياحة الفنادق الفاخرة والمولات الحديثة؟ أم أن علينا أن نلتفت إلى المدينة التي تقف تحت أقدامنا، إلى آثارها التي تتآكل، إلى بواباتها التي لم تعد لها مفاتيح؟
من السهل أن نقول إن بغداد مدينةٌ عريقة، لكن العراقة ليست كلماتٍ تزين الخطابات الرسمية. إن لم نستطع الحفاظ على تاريخنا، فكيف يمكننا أن نقدمه للعالم؟
قد لا نتمكن من إعادة بناء بوابات بغداد بالحجارة نفسها، لكن يمكننا أن نعيد إحياءها في ذاكرة الناس. يمكن أن تتحول إلى مراكز ثقافية، أو متاحف تفاعلية، أو حتى مجسماتٍ تحاكي ما كانت يومًا مداخل لعاصمة الحضارة.
إنقاذ الحاضر
في النهاية، بغداد ليست مدينةً تعيش على الأطلال. هي مدينة تحاول، رغم كل شيء، أن تنهض من جديد. السؤال الحقيقي ليس عن الماضي الذي فقدناه، بل عن الحاضر الذي يمكننا إنقاذه. فهل نترك بوابات بغداد مغلقة إلى الأبد؟ أم أننا سنجد المفتاح قبل فوات الأوان؟