100%
همسة وائل
تصوير/ حسين طالب
الهواء الذي نتنفسه شريان الحياة ونبض الوجود، لكنه في العراق اليوم أصبح عبئًا يثقل كاهل الإنسان والمجتمع بسبب التلوث. فالأدخنة ليست مجرد غيوم رمادية تغطي السماء، بل أمراض تهدد الرئة والقلب، وحتى الدماغ والكبد والكلى.
هذا التلوث يمتد ليصل إلى الاقتصاد الوطني، إذ تكلف الأمراض الناتجة عنه مئات الملايين سنويًا من النفقات الطبية وتراجع الإنتاجية، إضافة إلى تدهور البيئة التي تشكل أساس حياة الجميع. في ظل هذا الواقع المؤلم، يصبح من الضروري أن ندرك حجم هذه الأزمة ونتحرك بسرعة وعزم نحو حلول عملية تحمي حاضرنا ومستقبلنا.
حرق عشوائي
في العديد من الأحياء السكنية يتحول حرق المخلفات العشوائي إلى كارثة بيئية، حيث تُحرَق البلاستيكات، والنفايات الطبية، وحتى الإلكترونيات دون أدنى رقابة، ما يؤدي إلى إطلاق الديوكسينات القاتلة، والفورمالديهايد، والزئبق، والرصاص. دراسات محلية تربط بين هذه الممارسات وارتفاع معدلات الربو والسرطان، ما يتطلب حلولًا شاملة تتضمن التوعية وتطوير البنية التحتية للتخلص الآمن من النفايات.
المصانع ومصافي النفط، مثل تلك التي في البصرة والدورة، تطلق أكاسيد الكبريت والنيتروجين والميثان في الهواء دون فلاتر حديثة. في قرى مثل الهوير والقرنة، نسب الإصابة بالسرطان مرتفعة بشكل مقلق، بحسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية. التعرض لهذه الملوثات يزيد من الوفيات المبكرة وأمراض القلب والرئة.
أما عن المولدات الأهلية، فهناك أكثر من سبعمئة وخمسين ألف مولدة أهلية تعمل في البلاد، أغلبها على وقود رديء، وتسهم هذه المولدات بنسبة ثلاثين بالمئة من تلوث المدن الكبيرة، وفقًا لمركز البحوث البيئية العراقي، مسببة أمراضًا تنفسية حادة ومزمنة، خاصة في الأحياء المكتظة.
(البيكبات) غير المرخصة، أو القديمة، تنفث سمومًا قاتلة بسبب نوعية الوقود السيئة وانعدام أنظمة الانبعاث. تطلق هذه المركبات أول أوكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين والجسيمات الدقيقة، ما يزيد من حالات التسمم وأمراض الرئة المزمنة.
كذلك فإن حرق النفايات الطبية في العراء يطلق ملوثات تؤثر على الجهاز العصبي والمناعي، بينما تؤدي ورش الطلاء والحدادة إلى إطلاق مركبات عضوية خطيرة دون تهوية كافية، ما يعرض العمال والسكان المحيطين لأمراض طويلة الأمد.
تهديد مستمر
يحذر الدكتور عبد الرحيم نايف، مدير قسم الوبائيات، من الآثار التراكمية لتلوث البيئة، قائلًا: "مع مرور الزمن، يؤدي طرح هذه المواد الكيميائية في النهر واستخدام المياه والتربة الملوثة في الزراعة إلى تراكم السموم في جسد الإنسان. المشكلة لا تقتصر على الإصابة الفورية بمرض معين، بل تتجاوز ذلك لتشكل خطرًا مستمرًا وخفيًا. فكل تعرض بسيط قد يبدو غير مؤثر الآن، لكنه على المدى البعيد يراكم أضرارًا خطيرة داخل الجسم، ما يجعل من التلوث البيئي تهديدًا مستمرًا للصحة العامة وليس حالة مؤقتة."
من جانبها، تؤكد الدكتورة مريم علاء، الباحثة والأكاديمية المتخصصة في التلوث الهوائي، أن "الملوثات لا تقتصر تأثيراتها على الجهاز التنفسي فقط، بل تمتد لتحدث أضرارًا بالغة في الجهاز المناعي، وتسهم في حدوث تلف على مستوى الحمض النووي، وهو ما يُعد من المؤشرات الخطيرة للغاية."
وتضيف: "إن استمرار التعرض لهذه الملوثات دون تدخل حقيقي للحد منها، يسهم بشكل مباشر في زيادة معدلات الإصابة بالأمراض المزمنة، وعلى رأسها السرطانات، خاصة في الفئات الأكثر ضعفًا، مثل الأطفال وكبار السن."
فيما يوضح لؤي المختار، مدير قسم مراقبة الكيميائيات وتقييم التلوث في وزارة البيئة، أن "نسبة التلوث في بعض المناطق تجاوزت السبعين جزءًا من المليون، وذلك استنادًا إلى بيانات رصد محلية ودولية."
ويضيف: أن "هذا الرقم يعد مقلقًا للغاية، ولاسيما عند مقارنته بالحد الأقصى الذي توصي به منظمة الصحة العالمية، الذي لا يتجاوز عشرة أجزاء من المليون. هذه الفجوة الكبيرة بين الواقع والمعايير العالمية تشير إلى حالة طوارئ بيئية وصحية تتطلب تدخلًا عاجلًا على جميع المستويات."
حجم المأساة
لكنّ الأرقام وحدها لا تُجسد حجم المأساة إذ يروي سعد عبد الأمير، من منطقة البراضعية في محافظة البصرة، واقعًا يوميًا مرهقًا بكلمات تختزل الألم:
"أصبح الهواء في منطقتنا لا يُطاق. أعاني من الربو، وابني الصغير لا يستطيع النوم إلا باستخدام جهاز تنفس. لم نعد نفتح النوافذ، إذ يغطي الدخان الأسود منازلنا يوميًا. حتى الغبار لم يعد طبيعيًا، أشعر وكأن فيه رائحة كيميائية خانقة."
يبدو أن الحلول الممكنة في وجه العاصفة السامة تتطلب:
تشديد القوانين البيئية ومراقبة المصانع والمولدات، وتحسين نوعية الوقود وفحص المركبات، وتبني السيارات الكهربائية، ونشر التوعية المجتمعية ومنع الحرق العشوائي، ودعم التدوير والطاقة النظيفة كالطاقة الشمسية والرياح، والاستفادة من التعاون الدولي لنقل التقنيات والخبرات.
أدخنة الموت ليست خيالًا، بل واقع يومي نحياه. إذا لم نتحرك الآن، سنورث أبناءنا هواءً مسمومًا ومستقبلًا مهددًا.
العراق يستحق هواءً نظيفًا، وأجياله القادمة تستحق رئةً تتنفس لا تصرخ. التغيير يبدأ بإرادة… فلنمنح الحياة فرصة لتتنفس.