100%
همسة وائل
في قلب المدن العراقية، حيث تنبض الحياة اليومية وسط الزحام والأسواق والطرقات، تتراكم النفايات بشكلٍ بات مألوفًا، لكنه ليس طبيعيًا. لم يعد ملف النفايات مجرد قضية خدمية هامشية، بل أصبح تحديًا بيئيًا وصحيًا واقتصاديًا يمسّ حياة المواطنين مباشرة، ويطرح تساؤلات جادة حول كفاءة الإدارة المحلية، واستدامة المدن، والفرص الضائعة في ظل غياب منظومة متكاملة لإدارة المخلفات.
في المقابل، بدأت تظهر مبادرات فردية، وتجارب أهلية، وبعض المشروعات الصغيرة التي تحاول تحويل النفايات من عبء يومي إلى مورد قابل للتدوير أو التوظيف في مشاريع الطاقة والاقتصاد الأخضر. فهل يمكن أن تتحول هذه الأزمة الصامتة إلى فرصة تنموية؟ وهل يستطيع العراق، بإمكاناته البشرية والاقتصادية، أن يصنع من النفايات بداية لقصة نجاح بيئية؟
هذا التحقيق يفتح الملف من زواياه المتعددة، من قلب الأحياء المكتظة، إلى تجارب التدوير المحدودة، وصولًا إلى المقترحات التي قد تُحدث فرقًا حقيقيًا في هذا القطاع المهمش.
فرز ومعالجة
تشير تقديرات وزارة البيئة العراقية إلى أن حجم النفايات الصلبة المنتجة في البلاد يتجاوز 30 ألف طن يوميًا، تتوزع بين نفايات منزلية وتجارية وطبية وصناعية، في ظل غياب منظومة فرز ومعالجة فعّالة. في معظم المدن، يجري جمع النفايات عبر آليات تقليدية، ثم نقلها إلى مواقع طمر عشوائية، غالبًا دون معالجة أولية أو معايير بيئية، ما يترك أثرًا خطيرًا على الصحة العامة والتربة والمياه الجوفية.
وتفتقر غالبية البلديات إلى المعدات الكافية والكوادر المتخصصة، كما أن التمويل المخصص لقطاع النفايات محدود وغير مستقر، ويتأثر مباشرة بالأزمات الاقتصادية المتكررة التي تواجه الدولة. ولا تزال أغلب الخطط المعتمدة تركز على الجانب الخدمي (رفع النفايات فقط) دون أن تتبنى رؤية اقتصادية مستدامة تجعل من التدوير أو الاستفادة من النفايات موردًا استثماريًا.
أضرار بيئية
ترك النفايات في الشوارع تترتب عليه سلسلة من الأضرار السلبية التي تؤثر على الصحة العامة والبيئة والاقتصاد المحلي. فمن الناحية الصحية، يشكل تكدس النفايات بيئة خصبة لتكاثر الحشرات والقوارض، ما يزيد من انتشار الأمراض المنقولة، مثل التيفوئيد والكوليرا والتهابات الجهاز التنفسي، بالإضافة إلى التعرض للروائح الكريهة والغازات الضارة الناتجة عن تحلل المواد العضوية. أما بيئيًا، فإن تحلل هذه النفايات يطلق غازات دفيئة، مثل الميثان، التي تسهم في تغيّر المناخ، كما يؤدي تسرب السوائل الناتجة عن النفايات إلى تلوث التربة والمياه الجوفية، ما يفاقم الأضرار البيئية ويهدد مصادر المياه النظيفة.
على مستوى المدن، يسبب تراكم النفايات تشويهًا للمظهر الحضري، ما يقلل من جاذبية المدن للسياحة والاستثمار، ويؤدي في بعض الأحيان إلى انسداد المجاري وتدهور البنية التحتية، خاصة خلال موسم الأمطار. كما أن لهذا التراكم آثارًا اقتصادية خفية، تتمثل في ارتفاع تكاليف العلاج من الأمراض المرتبطة بالنفايات، وخسائر تجارية للمحال في المناطق غير النظيفة، فضلًا عن تأثيره السلبي على فرص الاستثمار بسبب ضعف الخدمات البيئية. وفي كثير من الأحيان يلجأ بعضهم إلى حرق النفايات بشكل عشوائي، ما يؤدي إلى انبعاث مواد سامة، مثل الديوكسينات، التي ترتبط بأمراض مزمنة، كالسرطان.
تدوير النفايات
في دول أخرى، أصبح ملف النفايات أحد روافد الاقتصاد الأخضر. مشروعات تحويل النفايات إلى طاقة أو سماد عضوي، أو إعادة تدوير الورق والبلاستيك والمعادن، تسهم في تشغيل الألوف وتقلل الضغط على البيئة. أما في العراق، فلا تتعدى نسبة النفايات المعاد تدويرها 1% من الكمية الكلية، ومعظمها يجري عبر جهود فردية، أو محلية، دون غطاء مؤسساتي أو خطة وطنية.
تدوير النفايات يشمل طرقًا عملية عدة تعتمد على نوع المادة التي يتم التعامل معها، منها:
-إعادة التدوير الميكانيكي: مثل فرز البلاستيك والزجاج والورق، ومن ثم تحويلها إلى منتجات جديدة قابلة للاستخدام.
-التدوير العضوي: تحويل النفايات العضوية، كالمخلفات الغذائية وبقايا النباتات، إلى سماد عضوي (كومبوست) يُستخدم لتحسين التربة ودعم الزراعة.
-التدوير الحراري: استخدام النفايات كوقود في محطات توليد الطاقة، عبر عمليات الحرق المنظم أو التحلل الحراري لإنتاج الطاقة الكهربائية والحرارية.
-إعادة التدوير الكيميائي: معالجة المواد البلاستيكية أو الكيميائية لتحويلها إلى مواد خام يمكن استخدامها في الصناعات المختلفة.
إن تطبيق هذه الطرق يتطلب بنية تحتية مناسبة تشمل مراكز فرز متقدمة، ووحدات معالجة عضوية، ومحطات للطاقة من النفايات، إلى جانب توعية المجتمع بأهمية الفرز من المصدر.
اقتصاد أخضر
على الصعيد الدولي، هناك نماذج ناجحة يمكن للعراق الاستفادة منها. في دولة مثل ألمانيا، تُدار النفايات عبر نظام متكامل يعتمد على فرز النفايات من المصدر وإعادة التدوير بنسبة تتجاوز 60%، بالإضافة إلى تحفيزات حكومية صارمة للحفاظ على البيئة. كما أن دولًا مثل كوريا الجنوبية والسويد حققت تقدمًا ملحوظًا في تحويل النفايات إلى طاقة، ما ساعد في تقليل الاعتماد على المصادر الأحفورية وتعزيز الاقتصاد الأخضر.
باستلهام هذه التجارب، يمكن للعراق أن يضع خطة وطنية واضحة تستفيد من مواردها المحلية، وتستثمر في الكفاءات البشرية والابتكار التكنولوجي لتطوير قطاع النفايات، ما يفتح آفاقًا واسعة أمام خلق فرص عمل، وتخفيف الضغط على الموارد الطبيعية، وتعزيز الإيرادات الحكومية من خلال استثمار الموارد البيئية بشكل ذكي ومستدام.
تمويل مستدام
التحول من مجرد إدارة الأزمة إلى استثمار الفرص في ملف النفايات يتطلب إعادة تفكير جذري في كيفية التعامل مع هذه المشكلة. النفايات لم تعد عبئًا بيئيًا فقط، بل باتت موردًا اقتصاديًا يمكن الاستفادة منه بشكل مستدام. لتحقيق ذلك، يجب أن تتبنى الحكومة العراقية رؤية ستراتيجية شاملة تتضمن سياسات واضحة ومتكاملة تعزز الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والمجتمع المدني، وتوفر البنية التحتية اللازمة لتطوير قطاع إدارة المخلفات.
في البداية، من الضروري إطلاق شراكات حقيقية مع القطاع الخاص، خاصة في مجالات التدوير وتحويل النفايات إلى طاقة. تلك الشراكات يمكن أن تقدم تمويلًا وتقنيات حديثة، ما يسرّع في عملية التحول ويخفف العبء عن القطاع العام. إلى جانب ذلك، يجب على الدولة توفير الحوافز والتسهيلات الاستثمارية لجذب الشركات والمبادرات التي تركز على الابتكار البيئي، مثل مشاريع الغاز الحيوي والطاقة المتجددة المستخرجة من النفايات العضوية.
التمويل المستدام هو حجر الزاوية في هذه الرؤية، ويتطلب تخصيص ميزانيات مستقرة وشفافة تضمن استمرارية البرامج، بعيدًا عن التبعية للأزمات الاقتصادية المؤقتة. كما يجب تعزيز القدرات الفنية والتدريب المستمر للكادر المختص في إدارة النفايات، من أجل رفع مستوى الأداء وتحقيق الكفاءة المطلوبة.
فرض آليات فرز النفايات من المصدر، سواء في المنازل أو المؤسسات، يمثل خطوة جوهرية لتسهيل عمليات التدوير والمعالجة، ويقلل من كلفة النقل والمعالجة. هذا يتطلب تشريعات ملزمة وتوعية مستمرة للمواطنين، من خلال حملات تعليمية وتربوية، لتغيير الثقافة المجتمعية تجاه النفايات وتحويلها إلى سلوك يومي. من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل دور التربية البيئية في المدارس كمكون أساسي لبناء جيل واعٍ بيئيًا، قادر على المساهمة في الحفاظ على البيئة وتبني ممارسات الاستدامة. هذه الخطوة تعزز الوعي طويل الأمد وتضمن استدامة النتائج.
فرص عمل
تُشكّل أزمة النفايات في المدن العراقية تحديًا بيئيًا وصحيًا واضحًا، لكنها في ذات الوقت فرصة غير مستغلة للنمو الاقتصادي والتنمية المستدامة. إذا ما تحوّلت الرؤية من إدارة الأزمة إلى الاستثمار في الحلول المستدامة، يمكن للعراق أن يحول ملف النفايات من عبء ثقيل إلى رافد اقتصادي مهم ينعش الاقتصاد ويخلق الألوف من فرص العمل.
لتفعيل هذا التحول، لا بد من تبني ستراتيجية وطنية شاملة تدمج بين دعم القطاع الخاص، وتعزيز القدرات الفنية، وفرض التشريعات الصارمة، ورفع الوعي المجتمعي عبر التربية البيئية والتعليم المستمر، إذ لا يمكن الاعتماد فقط على الحلول المؤقتة أو الجزئية، بل إن المطلوب نهج شامل ومتكامل يتعامل مع النفايات كمورد اقتصادي وليس مجرد نفايات.
بتطبيق هذه التوصيات، ستشهد المدن العراقية تحسنًا ملموسًا في جودة الحياة، وبيئة صحية أكثر، واقتصادًا أخضر مستدامًا يدعم رؤية العراق المستقبلية في التنمية والتحديث.