بغداد : وليد التميمي /
في تحول مفاجئ، بعد ما يقارب الأسبوعين من التصعيد العسكري والتوترات الحادة، أعلنت كل من إيران والكيان الصهيوني موافقتهما على وقف إطلاق النار، برعاية دولية. جاء هذا الاتفاق بعد سلسلة من الضربات الجوية والهجمات الصاروخية المتبادلة، هددت بجر المنطقة إلى حرب شاملة كان من الصعب التنبؤ بعواقبها. الجولة الأخيرة من الحرب كانت تصعيدًا خطيرًا كاد يخرج عن السيطرة، إذ جرى فيها استهداف منشآت إيرانية مهمة، تلتها ضربات ردت بها طهران على أهداف صهيونية. وبدا من شدة الهجمات، وما خلفته من دمار كبير، وكأن المنطقة تسير نحو صدام إقليمي واسع النطاق. في ظل هذه الخشية، تحركت أطراف دولية عدة في محاولة لاحتواء الموقف. واللافت أن الولايات المتحدة، رغم دعمها العلني للكيان المعتدي، ضغطت في الكواليس من أجل التهدئة، مدفوعة بالخوف من انفجار الأوضاع في المنطقة. ورغم الاتفاق الذي تم التوصل إليه بوقف العمليات العسكرية بين الطرفين، إلا أن الشكوك تبقى قائمة بشأن جدية الالتزام به، ويبقى الأمل قائمًا أيضًا أن تشكّل هذه الخطوة بداية للحد من صراعات في منطقة أنهكتها الحروب والأزمات. بداية العدوان في تطور خطير، كان ينذر بعواقب وخيمة على أمن واستقرار الشرق الأوسط، شن الكيان الصهيوني سلسلة من الهجمات الجوية والصاروخية على أراضي الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ما عُد عدوانًا صارخًا وتصعيدًا خطيرًا غبر مبرر. الهجوم الذي أسفر عن استشهاد العشرات من المدنيين والعسكريين، إلى جانب دمار في البنية التحتية، عكس استمرار السياسة العدوانية التي ينتهجها الكيان في المنطقة، مستفيدًا من الصمت الدولي على جرائمه، في غزة ولبنان وغيرهما. وعلى الرغم من وصف القيادة الإيرانية الهجوم بأنه "عدوان سافر وانتهاك صارخ للسيادة الوطنية يسعى لجر المنطقة إلى حرب شاملة"، أكدت أن الشعب الإيراني "لن يقف مكتوف الأيدي أمام هذا الاعتداء الغادر." لذلك، وانطلاقًا من مبدأ الدفاع عن السيادة، ورفضها لانتهاك أراضيها، جاء الرد الإيراني بموجات متعاقبة من الصواريخ الحربية التي دكت الداخل الإسرائيلي كرسالة واضحة بأن طهران لن تسمح بتحوّل الهجمات الصهيونية إلى أمر عادي، وأن أمنها القومي خط أحمر. فارضة في الوقت نفسه معادلة ردع محسوب تمنع تكرار الاعتداءات، مع حرصها على ضبط التصعيد وعدم الانزلاق نحو مواجهة شاملة. ويتضح جليًا أن إيران، في ردها هذا، سعت إلى تحقيق جملة من الأهداف السياسية والعسكرية، ضمن معادلة تجمع بين الحفاظ على الهيبة ومنع التصعيد. فعبر الضربات الصاروخية المدروسة، أرادت طهران أن توصل رسالة أن سيادتها الوطنية ليست محل تفاوض، وأنها لن تقف عاجزة إزاء أي اعتداء أيًا كان مصدره أو توقيته. صمت دولي ورغم فداحة العدوان، اعترى المشهد المضطرب صمت دولي لافت، حيث لم تصدر عن مجلس الأمن، أو القوى الكبرى، أية إدانة، ما اعتبر ضوءًا أخضر للكيان الصهيوني للاستمرار في نهجه العدواني. بعض الدول الأوروبية أعربت فقط عن "القلق من التصعيد"، في حين امتنعت الإدارة الأميركية عن التعليق المباشر، بل وشاركت الكيان عدوانه في قصف المنشآت النووية الإيرانية.. هذا الصمت الفاضح أثار الكثير من التساؤلات حول نزاهة المجتمع الدولي وموقفه من القانون الدولي. فبينما كانت دولة ذات سيادة تُستهدف، اكتفت القوى الكبرى بالتعبير عن "القلق" دون إدانة أو تحرك جاد.. وكأن العالم قرر أن يتجاهل النار المشتعلة طالما لا يصل لهيبها إلى مصالحه المباشرة. فلو وقعت هذه الهجمات على أراضي أية دولة أوروبية، أو في الولايات المتحدة، لكانت صُنفت كأعمال إرهابية أو إعلان حرب. أما لأنها في إيران، فلا شجب، ولا مواقف واضحة، ولا حتى دعوات لتحقيق دولي محايد. الدبلوماسية العراقية كان العراق في مقدمة الدول المتأثرة بشكل مباشر بهذا التصعيد، إذ وجد نفسه محاطًا بتحديات أمنية واقتصادية وسياسية معقدة، وسط مخاوف متزايدة من أن يتحول إلى ساحة لصراعات الآخرين، ما يعيد للأذهان مشاهد الحروب والدمار اللذين عاشهما طوال العقدين الماضيين. وبينما كانت نذر الحرب تتصاعد، ظهرت الحكومة العراقية بقيادة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني كلاعب غير معلن في الجهود الإقليمية والدولية لتهدئة الأزمة ومنعها من التوسع إلى مواجهة شاملة. وعلى الرغم من التحديات الداخلية التي تواجهها بغداد، فقد لعبت دبلوماسيتها دورًا حيويًا خلف الكواليس في التوسط وتسهيل قنوات الاتصال بين الأطراف الساعية إلى التهدئة، والباحثة عن فرص لوقف اطلاق النار، فقد أجرت الخارجية العراقية سلسلة من الاتصالات مع العواصم المؤثرة في الأزمة، من طهران إلى أنقرة والدوحة وواشنطن ودول الخليج، وغيرها من عواصم العالم، مع التأكيد على ضرورة خفض التصعيد، وحماية العراق من أن يكون ساحة لصراع لا علاقة له بمصالحه الوطنية. الدور العراقي لم يقتصر على اتصالات دبلوماسية عامة، بل شمل أيضًا وساطات خاصة عبر قنوات غير رسمية، منها دينية وشعبية، من أجل تسهيل التفاهم على خطوط التهدئة الأولية. بغداد.. سياسة هادئة لم تسعَ بغداد إلى استعراض إعلامي في خطواتها الدبلوماسية، بل انتهجت سياسة هادئة متوازنة تستند إلى التهدئة وتغليب منطق الحوار، والتركيز على النتائج الملموسة على الأرض، وهو ما دفع دبلوماسيين أوروبيين للإشادة بهذه السياسة، ولاقت ترحيبًا كبيرًا من أطراف دولية، واصفين إيّاها بـ "الناضجة والواقعية".، هذا السياسة منحت العراق توازنًا سياسيًا افتقده في السنوات الماضية، وأعادت تذكير العالم بأن بغداد قادرة على أن تكون صلة وصل في منطقة مليئة بالتوترات. وعند الإعلان عن وقف إطلاق النار، شعرت بغداد بأن جهودها، وإن لم يُسلط الضوء عليها إعلاميًا، أسهمت، بشكل فعال، في خلق أجواء إيجابية دفعت باتجاه التهدئة، فكانت من أوائل الدول التي رحبت بهذه الخطوة، مؤكدة أن التهدئة تمثل انتصارًا للدبلوماسية. وبهذا عادت بغداد إلى الواجهة مرة أخرى كعاصمة قادرة على التحرك الدبلوماسي البنّاء، في خطوة يرى فيها مراقبون أنها تجربة يمكن أن تشكل نقطة انطلاق جديدة للدبلوماسية العراقية، التي تسعى لتثبيت نفسها لاعبًا فاعلًا في ملفات المنطقة، ومقدمة لدور أوسع في الوساطة الإقليمية، خصوصًا أن العراق يمتلك كل مقومات التأثير في السياسة الدولية، لكن يبقى التحدي الأكبر هو استثمار هذا النجاح الدبلوماسي داخليًا، عبر ترسيخ الاستقرار السياسي وتحقيق التوافق الوطني.