مصطفى الهاشمي
يشهد العالم اليوم ثورة رقمية متسارعة، تقودها تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي باتت تؤثر في مختلف القطاعات الاقتصادية، ومن بينها قطاع التأمين. فالذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة تقنية، بل أصبح عنصرًا جوهريًا في إعادة تشكيل نماذج الأعمال، وتحسين الخدمات، وتعزيز الكفاءة التشغيلية. وفي ظل التحول العالمي، يبرز التساؤل عن مدى استعداد قطاع التأمين في العراق مواكبة هذه التطورات؟ يرى خبراء اقتصاديون أن الذكاء الاصطناعي يوفر إمكانيات هائلة لشركات التأمين، منها تحليل البيانات الضخمة لتقييم المخاطر بدقة، وأتمتة عمليات المطالبات، واكتشاف حالات الاحتيال، وتقديم خدمات مخصصة للعملاء. وهذه التقنيات تتيح للشركات اتخاذ قرارات سريعة ومدروسة، وتقلل من التكاليف التشغيلية، وتزيد من رضا العملاء. ففي الدول المتقدمة، أصبحت روبوتات المحادثة وأنظمة التنبؤ الذكي جزءًا لا يتجزأ من تجربة التأمين الحديثة.
تحديات هيكلية أما في العراق، فإن قطاع التأمين لا يزال يواجه تحديات هيكلية وتقنية تعيق تبني الذكاء الاصطناعي بشكل فاعل. من أبرز هذه التحديات ضعف البنية التحتية الرقمية، وقلة الاستثمار في التقنيات الحديثة، وغياب التشريعات التي تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي في الخدمات المالية. كما أن ثقافة التأمين نفسها لا تزال محدودة في المجتمع العراقي، ما يقلل من حجم السوق ويضعف الحافز نحو الابتكار. تقول الخبيرة الاقتصادية الدكتورة أسرار عبد الزهرة: إن "الفرصة لا تزال قائمة، فالعراق يمتلك طاقات شبابية كبيرة ومواهب في مجال التكنولوجيا يمكن أن تُسهم في تطوير حلول تأمينية ذكية محلية." وأضافت عبد الزهرة، في حديثها لـ "الشبكة العراقية"، أن "التحول نحو الحكومة الإلكترونية، وتزايد استخدام الهواتف الذكية، يفتحان الباب أمام تطبيقات تأمين رقمية تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وتتيح لشركات التأمين العراقية أن تبدأ بخطوات تدريجية، مثل استخدام أدوات تحليل البيانات لتحسين تقييم المخاطر، أو اعتماد أنظمة مؤتمتة لمعالجة المطالبات." وتؤكد أن "تحقيق هذا التحول يتطلب تنسيقًا بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص لتوفير بيئة تشريعية وتشغيلية داعمة، إذ من الضروري تحديث قوانين التأمين لتشمل الجوانب التقنية، وتوفير حوافز للشركات التي تستثمر في الذكاء الاصطناعي." داعية إلى "إطلاق برامج تدريبية لتأهيل الملاكات البشرية على استخدام هذه التقنيات، وتعزيز الوعي المجتمعي بأهمية التأمين كأداة لحماية الأفراد والمؤسسات."
فرصة ذهبية المختص بالشأن الاقتصادي طه حسين مجيد قال: إن "الذكاء الاصطناعي يمثل فرصة ذهبية لقطاع التأمين في العراق للنهوض بواقعه التقليدي إلى نموذج أكثر حداثة وفعالية." وأكد مجيد، في حديث لـ "الشبكة العراقية"، أن "التحديات كبيرة، لكن الإرادة والابتكار قادران على تحويلها إلى إنجازات ملموسة تعزز الاستقرار الاقتصادي وتخدم المجتمع بشكل أفضل." ولفت إلى أن "استخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الضخمة، لتقييم المخاطر، من شأنه تحسين تجربة العملاء من خلال روبوتات المحادثة والتفاعل الذكي وأتمتة عمليات المطالبات وتقليل الاحتيال عند المطالبة بالتعويض."
يعتقد مجيد أن "التحديات تتمثل بالقضايا الأخلاقية المرتبطة باتخاذ القرارات الآلية، والحاجة إلى تحديث التشريعات لمواكبة التطور التقني، فضلًا عن مخاوف فقدان الوظائف التقليدية في هذا القطاع. أما الفرص المستقبلية فتتمثل بتطوير نماذج تأمين ذكية تعتمد على البيانات الحية، إلى جانب تعزيز الشفافية والدقة في تقييم المخاطر، فضلًا عن فتح مجالات جديدة للتأمين مثل تأمين الأنظمة الذكية والسيارات الذاتية القيادة."
البنية التحتية وعن البنية التحتية لقطاع التأمين الحكومي بصورة خاصة، والأهلي بصورة عامة، وجاهزيته لإطلاق خدمة التأمين بالذكاء الاصطناعي، رأى المختص بشؤون التأمين مصباح كمال أن "البنية التحتية لشركات التأمين الحكومية ضعيفة، فالأنظمة الإدارية والمالية لا تزال تقليدية. ويمكن القول إن الأتمتة ورقمنة البيانات ضعيفة، فعمليات تسوية المطالبات بالتعويض، والاكتتاب بأخطار التأمين وتسعيرها، وإدارة وثائق التأمين تُدار يدويًا أو عبر أنظمة غير مترابط بعضها مع بعض." وأشار كمال في حديثه لـ "الشبكة العراقية" إلى "وجود نقص في الملاكات التقنية المؤهلة لتشغيل أو تطوير حلول الذكاء الاصطناعي، وهذا ينطبق على شركات التأمين العامة والخاصة على حد سواء." مبينًا ضرورة قيام شركات التأمين بالاستثمار في أرشفة البيانات التأمينية، فهو إجراء أساس لبناء أنظمة ذكية قابلة للتعلم والتحليل، كي لا يبقى الذكاء الاصطناعي مجرد شعار يُردد دون الاهتمام بمتطلباته."
إدارة تقليدية وعن موقف ووضع (المنتجين) من هذا الموضوع، توقع كمال تقلص دور المنتجين، ولاسيما أن معظمهم لا يتمتعون بالمواصفات التي يتمتع بها الوسطاء المحترفون الذين يتعاملون مباشرة مع العملاء، ويقومون ببيع وثائق التأمين، وجمع الأقساط، وتقديم المشورة. موضحًا أن "هذا التقلص يأتي في حال لجوء شركات التأمين إلى التوسع في بيع المنتج التأميني مباشرة من خلال المنصات الإلكترونية التابعة لها. ففي حال إدخال أدوات الذكاء الاصطناعي (مثل روبوتات المحادثة، وأنظمة التسعير الذكية، والتطبيقات الخاصة بتسوية المطالبات)، فإن هذه الأدوات تقلل، في البدء، من دور المُنتج التقليدي في بعض المهام، تمهيدًا لخروجه من السوق، هذا إذا لم ينجح المنتج ليقوم بدور (مستشار رقمي) يربط بين العميل والمنصة الإلكترونية التي يديرها." يتابع كمال أن "معظم العاملين في شركات التأمين العراقية، ولاسيما الشركات الحكومية، ينتمون إلى جيل إداري تقليدي، وأن هناك فجوة واضحة في المهارات الرقمية، والقدرة على التعامل مع الأنظمة الذكية لديهم.
وليست هناك برامج لإعادة تأهيل العاملين للتأقلم مع أدوات الذكاء الاصطناعي تمهيدًا لتعاملهم معها من موقع قائم على المعرفة والمهارة." ويؤكد أن "تفعيل أدوات الذكاء الاصطناعي لا يعني، أو يستلزم بالضرورة، التخلص من العاملين، إذ يشهد تاريخ التأمين عمومًا، ومنه تاريخ التأمين العراقي، أن إدخال أدوات جديدة لا يستدعي إقصاء الملاكات، بل إعادة توزيع المهارات والتدريب على استخدام هذه الأدوات. مع فارق أن الذكاء الاصطناعي يمثل تحولًا يختلف عن التقنيات التي أُدخلت على صناعة التأمين."
واختتم كمال حديثه قائلًا: إن "ما تحتاجه هذه الشركات هو تخصيص الأرصدة المناسبة، ليس فقط لتوسيع استخدام أجهزة الكومبيوتر والبرمجيات المعتمدة في إدارة عمليات التأمين، وإنما الاستثمار في أدوات الذكاء الاصطناعي. ومن الضروري ربط هذه الإجراءات ببرنامج تدريبي للعاملين في هذه الشركات، والتعاون مع الهيئات الوطنية المتخصصة والجامعات، ومن المناسب الإفادة من تجارب الشركات الأخرى."