أحمد جعفر /
ربما للمرة الأولى منذ عقود، يُنظر إلى الضريبة لا باعتبارها "جزية مفروضة"، بل أداة ناعمة لإعادة بناء العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة. فحين يشعر المكلف أن أمواله تُجمع بشفافية، وتُدار بعدالة، وتعود عليه بالخدمات، تتحول الضريبة من عبء إلى شراكة، ومن عبث إلى مسؤولية وطنية. في مشهد بدا وكأنه إعادة كتابة لتلك العلاقة، شق رئيس الوزراء محمد شياع السوداني طريقه إلى الهيئة العامة للضرائب، لا كزائر بروتوكولي، بل كمُصلح يتلمّس نبض مؤسسة شاخت في دواليب الروتين، وغرقت لسنوات في أوحال الفساد والإهمال. كانت الزيارة أكثر من جولة تفقدية، كانت بمثابة تشخيصٍ صريح لعلل طالت مداواتها، ورسالة واضحة بأن زمن الغموض الضريبي قد ولى، وأن عراقًا جديدًا يولد من رحم الورق المتكدس والأختام التي ما عادت تُقنع أحدًا. مؤسسة منهكة السوداني، في بيان رسمي، لم يخفِ امتعاضه من حالة التراخي التي تعيشها الهيئة، مشيرًا إلى "ضعف وزارة المالية في دعم البنى التحتية، وتلكؤها في تنفيذ الأتمتة، وغياب جهة عليا تعاقدية قادرة على إبرام اتفاقات مع شركات التكنولوجيا العالمية." الهيئة، كما وصفها، تكاد تكون جسدًا بلا قلب رقمي، تئنّ تحت وطأة الروتين، وتفتقر إلى الحد الأدنى من متطلبات العمل المؤسسي. وبرغم تصديق رئاسة الوزراء على حزم الإصلاح، إلا أن التنفيذ يصطدم بحواجز داخلية وأخرى صادرة من جهات رسمية يبدو أنها لا تزال تحنّ إلى "زمن النماذج الورقية والمزاج الإداري." ولهذا، صدرت توجيهات صارمة بإعداد تصاميم موحدة لأبنية ضريبية نموذجية في عموم البلاد، وتكليف وزارة المالية بتوفير الأراضي، فضلًا عن مفاتحة شركات عالمية لبناء نظام ضريبي رقمي متكامل. القانون الجديد في قلب هذا الحراك الإصلاحي، يقف مشروع القانون الضريبي الجديد بوصفه حجر الأساس لتحول جذري، بحسب عضو اللجنة العليا لتنفيذ الإصلاح الضريبي، خالد الجابري، فقد تم استكمال القانون وإرساله إلى مجلس الوزراء تمهيدًا لعرضه على البرلمان. القانون لا يقتصر على صياغات قانونية جامدة، بل يشكل إطارًا ستراتيجيًا لإعادة هيكلة العلاقة بين المكلف والدولة، من خلال توحيد الإجراءات، وتنظيم منح براءة الذمة، ومعالجة تشابه الأسماء الذي طالما عرقل مصالح آلاف المواطنين. من أبرز ملامح التحول، ما أُعلن عن قرب اعتماد نظام رقمي للاستعلام الضريبي، يتيح للمكلف معرفة موقفه المالي إلكترونيًا، دون الحاجة لطرق أبواب المكاتب أو انتظار توقيع مأمور. وللمرة الأولى، سيتمكن المواطن من ممارسة حقه الضريبي من خلال ضغطة زر، في مسار شفاف يُخرج الضريبة من متاهة الغموض إلى فضاء الوضوح. ليس هذا فقط، بل ستُتاح بيانات الشركات لجميع الدوائر الحكومية، بما يعزز بيئة الاستثمار، ويكشف النقاب عن مستور كثيرًا ما استخدم التعتيم المالي ملاذًا للهروب من الواجب الضريبي. وبلغت الإيرادات الضريبية لعام 2024 ما يقرب من 3.755 تريليون دينار عراقي، وهي قفزة تحسب لمجموعة إصلاحات شملت تحفيز المكلفين، وإعفاءهم من الغرامات والفوائد، ما شجعهم على تسوية مستحقاتهم دون ضغط أو تهديد. لكن الجابري يحذر من أن "الطريق ما زال طويلاً، فالتحديات تتراوح بين تدني رواتب الموظفين، وسوء البيئة المؤسسية، ومحدودية الكفاءات الرقمية، ما يتطلب عملًا شاقًا لا مكان فيه لموظف متكاسل أو مسؤول مرتجف من التغيير". الخبير الاقتصادي صفوان قصي ذهب أبعد من ذلك، مؤكدًا أن أكثر من مليوني عامل في السوق العراقية لا يخضعون لأي التزام ضريبي. ويرى أن هذه الفجوة، ما بين الواقع المالي الحقيقي والمُصرّح به، تشكل ثقبًا أسود في جسد الموازنة العامة. قصي شدد على ضرورة الربط الإلكتروني الكامل بين بيانات المكلفين وهيئة الضرائب، ومراجعة الإعفاءات بحكمة تراعي الطبقات الهشة، دون أن تفتح أبواب التهرب لأصحاب الامتيازات.