زياد الهاشمي /
تُعدّ المدن النفطية حول العالم نماذج ملهمة لتحويل الموارد الطبيعية إلى محركات تنموية لخلق اقتصاد صاعد ومستدام. وفي عالمنا اليوم الكثير من الأمثلة النوعية لتلك المدن، ومنها ولاية تكساس الأميركية التي تبرز كنموذج رائد صالح للاستفادة منه والاسترشاد به، حيث برزت هذه الولاية الغنية بالنفط طوال العقود الماضية كنموذج اقتصادي متقدم تمكن من تطويع الثروة النفطية ووارداتها وتحويلها إلى دعامة رئيسة للتنمية الشاملة في الولاية. تعد تكساس واحدة من أكثر الولايات الأميركية نمواً في كافة القطاعات، التي شملت الصناعة والتعليم وريادة الأعمال والتكنولوجيا، إذ يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لتكساس 2.7 تريليون دولار، مع نصيب فرد يتجاوز 86,000 دولار، ما يجعلها تتفوق على اقتصادات دول مثل روسيا وكندا. هذا التحول لم يكن وليد الصدفة بل جاء نتيجة رؤية تنموية شكلت العديد من الستراتيجيات طويلة الأمد، التي سخرت عائدات النفط والغاز لتطوير الاقتصاد المحلي والبنية التحتية والصناعية والموارد البشرية. ولأن البنية التحتية هي الأساس الذي تبنى عليه القوة الاقتصادية لأية مدينة، أولت تكساس اهتمامًا واضحًا بتحديث شبكات الطرق السريعة، وتوسيع الموانئ، وإنشاء أنظمة نقل أنبوبي حديثة. وقد تمكنت تلك الولاية فعلًا من الحصول على بنية تحتية متطورة تشمل خطوط أنابيب تمتد لأكثر من 450,000 ميل، وموانئ تصدير مثل ميناء هيوستن، الذي يتعامل مع 247 مليون طن من البضائع سنويًا، ما ساعدها على تعزيز موقعها كمركز رئيس في التجارة الدولية وسلاسل الإمداد العابرة للقارات، وجعل منها بوابة تجارية رئيسة تربط أميركا الشمالية بالأسواق العالمية. كما تضم الولاية أكبر مصافي التكرير في الولايات المتحدة، بطاقة تكرير يومية تصل إلى 5.7 مليون برميل، تغذي صناعات البتروكيماويات والبلاستيك والأسمدة، محققةً عائدات تصدير تتجاوز 300 مليار دولار سنويًا. بيئة مزدهرة أما على صعيد سوق العمل، فقد أسهم القطاع النفطي في تكساس بتوفير وخلق 2.8 مليون وظيفة مباشرة وغير مباشرة داخل الولاية ومئات الآلاف من الوظائف ذات الأجور المرتفعة، في مجالات تشمل التنقيب والتكرير والتصدير والخدمات اللوجستية والتقنيات الصناعية والإدارة المالية، وحتى السياحة الداخلية المرتبطة بالمراكز الصناعية الكبرى، ما أسهم في جذب أعداد كبيرة من الكفاءات الباحثين عن عمل وفرص اقتصادية في بيئة تنافسية مزدهرة. في الوقت نفسه، لم تقع تكساس في فخ الاعتماد المفرط على النفط، بل عملت على تنويع اقتصادها بشكل مدروس. إذ استخدمت الإيرادات المتحققة من قطاع الطاقة لتمويل نمو قطاعات أخرى مثل الصناعات التحويلية، والابتكار التكنولوجي، والشركات الناشئة والبحث العلمي، فيما تطورت برامج الطاقة المتجددة بشكل ملحوظ لتجعل من تكساس أحد أكبر منتجي طاقة الرياح في أميركا. هذا التنوع وفر حماية نسبية للاقتصاد المحلي من تقلبات أسعار النفط العالمية، ومكّن الولاية من الحفاظ على مسار نمو مستقر ومرن. وقد أنشأت الولاية كذلك صناديق استثمارية دائمة مثل صندوق المدارس العامة وصندوق الجامعات، الذي يدعم البحث العلمي في جامعات مثل UT Austin وTexas A&M، ما يعزز الابتكار والتطور البحثي، وخلق بيئة تعليمية مزدهرة مدعومة من ثروات طبيعية لا تنضب بسهولة. ستراتيجيات تنموية نموذج آخر ملهم هي مدينة كالغاري النفطية الكندية، التي تمكنت من تحقيق طفرات اقتصادية كبيرة حولت المدينة من مدينة زراعية منسية إلى مركز مالي وتكنولوجي هو الأضخم في الغرب الكندي، تتوسع فيها قطاعات الطاقة المتجددة والتعليم العالي والابتكار والشركات الناشئة والتنمية المستدامة بشكل مضطرد، وكل ذلك يعود الى تطبيق سياسات وستراتيجيات تنموية، تستهدف خلق اقتصاد متنوع ومتطور لا يعتمد بشكل كبير وحصري على عائدات النفط. وفي منطقة الشرق الأوسط، نجد أن مدينة أبو ظبي في الإمارات، نجحت في توجيه مواردها النفطية إلى تنفيذ ستراتيجية تنموية طويلة الأمد، تستهدف تطوير قطاعات البنية التحتية والتطور العمراني والسياحة والتكنولوجيا والطاقة المتجددة وريادة الأعمال، ما أسهم مباشرة في إحداث قفزة كبيرة في تلك القطاعات، وحقق نهضة اقتصادية داخل المدينة، وقلل تلقائيًا اعتمادها على النفط إلى أقل من %30 من الناتج المحلي الإجمالي. أضف إلى ذلك، فقد نجحت أبو ظبي في توجيه نسبة كبيرة من عوائدها نحو جهاز (أب وظبي) للاستثمار، الذي يدير أصولًا تتجاوز 1 تريليون دولار، وتخلق عوائد سنوية صافية بعشرات المليارات من الدولارات. تحديات اقتصادية في المقابل، لاتزال تعاني المحافظات النفطية العراقية (البصرة، ميسان، ذي قار، كركوك) من تحديات اقتصادية كبيرة حرمتها طوال عقود من أن تحقق تقدمًا اقتصاديًا كالذي تحققه عادة المدن النفطية حول العالم، حيث تعاني هذه المحافظات من بنية تحتية متدهورة ومستوى عال من الفقر بين السكان، إضافة لزيادة التلوث البيئي وارتفاع مستوى البطالة لحدود 20 % وضعف قطاعات الخدمات الصحية والتعليمية، وحالات الفساد وسوء الإدارة، ما يجعل تلك المدن النفطية من أقل المدن انتفاعًا اقتصاديًا من مواردها الطبيعية. وهذا ما يجب أن يدفع ويشجع محافظاتنا النفطية العراقية للعمل جديًا، وبشكل منهجي، للاستفادة من التجارب الناجحة للمدن النفطية الأخرى حول العالم في خلق نموذج اقتصادي تنموي وعصري يلائم تلك المحافظات، يتكون من سلسلة من الحلول، تبدأ من تحجيم الفساد والاستثمار في تطوير البنية التحتية والفوقية للمحافظات وجذب وتشجيع الاستثمارات في إنشاء مناطق صناعية وخدمية متنوعة. وإذا نجحت المحافظات النفطية العراقية في تطبيق ذلك وأتقنت تنفيذه على مراحل متسلسلة، فإن المكاسب ستكون مذهلة، قد تفوق كل التوقعات، وحينها سنشاهد ارتفاعًا كبيرًا في دخل الفرد وتقليصًا قياسيًا ومستدامًا في مستويات البطالة، وكل ذلك يتم ضمن إطار اقتصادي نموذجي، يرتكز على توجيه عائدات النفط إلى مسارات اقتصادية متنوعة تخلق الوظائف، وتصنع الفرص، وترفد الاقتصاد المحلي بالمنتجات والخدمات، وتولد العوائد وتنوعها وتعظمها، بالتوازي مع تنمية مستمرة في جودة البنية التحتية والبحثية والتربوية، وغير ذلك من خطوات وقفزات تنموية أخرى، التي تأخرت كثيرًا، وآن الأوان للعمل بصدق على تحقيقها.
