تحولات الشعر العربي.. من المحاكاة إلى استبطان الذات

ثقافية

تحولات الشعر العربي.. من المحاكاة إلى استبطان الذات
100%
رعد كاظم جبارة شهد العالم العربي خلال القرن الماضي تحولات جذرية في الشعر، تأثرت بالمذاهب الأدبية العالمية، وواكبت التغيرات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي عصفت بالمنطقة. فبعد أن كان الشعر محاكاة للطبيعة والواقع، وتمجيدًا للقبيلة أو السلطان، أصبح وسيلة لاستبطان الذات والتعبير عن الأحاسيس والهواجس والانفعالات العميقة، ما أدى إلى ولادة أنماط جديدة من الكتابة الشعرية أنماط شعرية ابتعدت عن الأغراض التقليدية، كالهجاء والمدح والرثاء، لتصبح أكثر انغماسًا في قضايا الإنسان المعاصر وهمومه الفردية والجماعية. الرمزية وتأثيرها ظهرت الحركة الرمزية في أوربا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وازدهرت في فرنسا بشكل خاص، مع شعراء مثل شارل بودلير وستيفان مالارميه وبول فاليري. أحدثت هذه الحركة ثورة في بناء القصيدة من خلال إحلال الخيال محل الواقع، والمزاوجة بين العناصر المختلفة في النص الشعري كالألوان والأصوات والروائح لإثارة مشاعر القارئ. وقد تأثر الشعر العربي بهذه الحركة لاحقًا، خاصة مع تصاعد موجة الحداثة في النصف الأول من القرن العشرين. فظهر التلميح والإيحاء والترميز كأسس جوهرية في كتابة القصيدة الحديثة، وبات الشاعر العربي يسعى إلى الغوص في أعماق التجربة الإنسانية بدلًا من الاكتفاء بوصف العالم الخارجي، كما أصبح الشعر وسيلة لاستكشاف الأسئلة الوجودية والقلق الحضاري الذي فرضته تحولات العصر. البدايات الأولى مع مطلع القرن العشرين، بدأ شعراء عرب يتطلعون إلى كسر القيود التقليدية للقصيدة العمودية. وكان من أبرز هؤلاء رواد حركة الشعر الحر، وعلى رأسهم بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري في العراق، وصلاح عبد الصبور في مصر. هؤلاء الشعراء مهدوا الطريق لظهور تيارات وأجيال لاحقة، تميزت بتصورات جديدة حول الشكل والمضمون الشعري، فجاءت قصائدهم محملة بهموم الإنسان العربي المعاصر، وتعكس أزماته السياسية والاجتماعية والروحية. ظل الشكل التقليدي للقصيدة العربية – العمودي ذو البحر والقافية – يفرض نفسه لقرون، لكن مع صعود حركة الحداثة، بدأ الشعراء في كسر هذا القالب، متبنين قصيدة التفعيلة التي حررت الوزن من القافية الواحدة، ما أتاح للشاعر مرونة أكبر في التعبير. ومع ذلك، لم يكن التجديد محصورًا في الشكل فقط، بل امتد ليشمل المضامين، التي تأثرت بالسياقات السياسية كفلسطين، والاستعمار، والنكسة، وأحلام الوحدة العربية. منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى اليوم، توالت الأجيال الشعرية، وكل جيل كان يحمل بصمته الخاصة، لكنه في النهاية ينتمي إلى التيار الحداثي العام الذي قام على تقويض القواعد التقليدية للشعر العربي. وقد تباينت اتجاهات الحداثة بين من رأى في التراث مصدرًا للإحياء بأسلوب متجدد، كما فعل محمود درويش، وبين من اتجه إلى القطع التام مع الأشكال الكلاسيكية، معتبرًا أن الحداثة تعني التجريب المستمر والبحث عن آفاق لغوية ودلالية جديدة، كما فعل محمد الماغوط في قصيدة النثر. اللغة والخيال تمكنت قصيدة الحداثة من تحقيق نقلة نوعية في اللغة الشعرية، إذ باتت أقرب إلى لغة الحياة اليومية، لكنها في الوقت ذاته حملت بعدًا رمزيًا عميقًا. لجأ شعراؤها إلى استخدام الأقنعة والرموز والأساطير، واستبدال الصورة البسيطة بالصور المركبة التي تعتمد على المخيلة القوية والتراكيب المعقدة، التي تغوص في أعماق الذات الإنسانية، محاولة فهم ما وراء الظواهر السطحية للأشياء. ونجح أدونيس في ترسيخ مصطلح "فكرة القصيدة"، واضعًا جملة من الشروط ضمّنها في مقالة له نشرت في مجلة "شعر" عام 1960 تحت عنوان "في قصيدة النثر". وكرر عدد من الشعراء مذهبه، من بينهم أنسي الحاج، الذي تبنى هذا المفهوم عندما كتب عن فكرة القصيدة في مقدمة مجموعته "لن". وسرعان ما انتشر هذا المصطلح واحتل مكانته بين العديد من المصطلحات الشعرية الأخرى. معارك شعرية اللافت هو أن هذه المصطلحات والتطورات في القصيدة العربية كانت إلى حد كبير مستمدة من الثقافة الغربية، ولم تكن اجتهادًا ذاتيًا أو اشتقاقًا من أصول الشعر العربي التقليدي. فقد حافظت النصوص العربية القديمة على اتجاه واحد للقصيدة العمودية، ولم يجرب شاعر عربي في العصور السابقة تمردًا حقيقيًا على القوالب السائدة. وكل ما شهدناه من قبل لم يتعدَ معارك شعرية بين أنصار التجديد والمحافظين، لتتجمع في النهاية تحت ما يمكن تسميته معركة بين "المنظوم والمنثور". لا تزال تجربة الحداثة في الشعر العربي مفتوحة على احتمالات متعددة. القصيدة الحديثة، التي ما زالت تبحث عن أشكال جديدة من التعبير، تستفيد من الإرث الشعري الغني للأمة العربية، لكنها تحرص على أن تتجاوب مع روح العصر وتحولات الفكر الإنساني. وبينما يستمر بعض الشعراء في البحث عن لغات شعرية متجددة تمزج بين التراث والحداثة، يواصل آخرون التجريب الجريء الذي يضع الإنسان في مركز القصيدة، باحثين عن صور أكثر حيوية، وطرق أكثر جرأة للتعبير عن الذات والواقع.

إقــــرأ المــــزيــــــــد

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال
تحقيقات

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي
تحقيقات

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي

حياة بلا تواصل اجتماعي..  هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟
تحقيقات

حياة بلا تواصل اجتماعي.. هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟
تحقيقات

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي
تحقيقات

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"
تحقيقات

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"

أبرز الأخبار

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

قصة إعدام الفنان صباح السهل

قصة إعدام الفنان صباح السهل

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج