100%
دهوك / كولر الداودي
في قلب مدينة زاخو بمحافظة دهوك، ينتصب (جسر دلال) كأيقونة تاريخية، وشاهد صامت على قرون من الحضارة. يُعرف الجسر بتسميات عدة، منها (الجسر العباسي)، و(الجسر القديم)، و(الجسر الحجري)، ويُعد من أبرز المعالم الأثرية والسياحية في المنطقة.
بالرغم من الاعتقاد السائد بأن بناء الجسر يعود إلى العصر العباسي، إلا أن بعض المؤرخين يرجّحون أن أصوله أقدم من ذلك، وربما تعود إلى الحقبة الرومانية، أو الفارسية.
يتميّز الجسر بتصميم هندسي فريد، إذ شُيّد باستخدام حجارة صلبة من دون أية مواد لاصقة، ما يُعد دليلًا على براعة وتقنية المعماريين في ذلك الزمن. ويمتد الجسر على نهر الخابور بطول يبلغ نحو 114 مترًا، ويتكوّن من خمس قناطر حجرية مقوسة. محيطه الطبيعي الخلاب، خصوصًا في الربيع والصيف، يجعل منه مقصدًا سياحيًا بارزًا، فضلًا عن أنه يعد ملتقى للأهالي والزائرين، ومكانًا مفضلًا لالتقاط الصور وتوثيق الذكريات.
أصل الاسم
يقول المؤرخ الزاخوي سعيد رزفان إن "اسم الجسر تغيّر مرارًا بتغيّر القوى المسيطرة على المدينة. وقد حمل تسميات متعددة منها: (قنطرة سنجة)، و(جسر الحسنية)، و(الجسر الكبير)، حتى استقر اسمه في الذاكرة الشعبية بـ(جسر دلال)."
حيث تدور أسطورة حزينة حول هذا الاسم، مفادها أن أمير المدينة كلّف أحد البنائين ببناء الجسر، غير أن القنطرة الوسطى كانت تنهار كلما شُيّدت، ما اضطر البنّاء لاتباع مشورة أحد العرّافين بضرورة دفن أول من يعبر الجسر في هيكله. في اليوم التالي، حضرت (دلال)، كنّة البنّاء، حاملة الطعام برفقة كلبها. وعندما تأخّر الكلب وتقدّمت دلال، أصبحت أول من وطئت أقدامها الجسر، فكان عليها أن تكون (الأضحية) لضمان اكتماله.
ورغم صدمة البنّاء، وافقت دلال بشجاعة، وقالت: "افعل ما تراه مناسباً يا عمي، فأنا سعيدة أن أُقدم حياتي من أجل رفاه شعبي." ودُفنت في قلب الجسر، ليكتمل البناء ويخلّد باسمها.
وتقول الرواية الشعبية إن نبتتين نبتتا لاحقًا بين أحجار الجسر في الجهة الغربية تُعدّان (ضفائره)، وقد أصبحت قصة دلال تُروى من جيل إلى جيل، وتغنّى بها الشعراء، وتفاخر بها الأهالي كرمز لشجاعة المرأة الكردية وتضحيتها.
كيف صمد؟
ويشير المؤرخون إلى أن الجسر صمد قرونًا بفضل تقنيات بناء دقيقة. فقد جُلبت الحجارة الكلسية من قرية (دركار) شمالي زاخو، وجرى استخدام قضبان حديدية لصيانة الأقواس، التي ثبتت بصهر الرصاص داخل فتحات مخصصة لمنع الصدأ، بينما وُضعت الحجارة بتداخل مدروس لضمان التوازن والاستقرار. كما استُخدم حجر الصوان والكلس (النورة) لمقاومة الرطوبة.
كان جسر دلال نقطة حيوية على طريق (شرق دجلة)، أحد أهم الطرق التجارية القديمة التي ربطت بلاد الرافدين بالأناضول، ومنها إلى ديار بكر وأرمينيا. وقد شكّل معبرًا للقوافل التجارية الكردية والأرمنية والبيزنطية خلال العصور الوسطى.
إحياء الذاكرة
يخضع الجسر اليوم إلى أعمال ترميم بالتعاون بين بلدية زاخو ومديرية آثارها، بمشاركة شركات تركية متخصصة تحت إشراف مهندسين وفنيين، وقد أُعيد تشييد الكورنيش، وأُزيلت التجاوزات التي بُنيت في عام 1977، بهدف استعادة القيمة التراثية والمعمارية للجسر.
يؤكد المدرّس ريبوار خوشناو، أحد أبناء المدينة، أن جسر دلال بات رمزًا حضاريًا لزاخو، حيث يأتي مئات السياح من مختلف المحافظات العراقية لزيارته. ويضيف: "هذه الأسطورة باتت جزءًا من وجداننا، وكل طفل في زاخو يعرف قصة دلال."
فيما ترى السيدة بيان علي، من سكان المدينة، أن الأسطورة تُعدّ الأكثر شهرة في كردستان، وهي اليوم من رموز الوفاء والتضحية. وتشير إلى أن "العرسان الجدد يحرصون على التقاط صورهم هناك، فيما يعلّق الزوار أقفالًا صغيرة على الجسر، تحمل أسماءهم تعبيرًا عن الحب الأبدي والارتباط الروحي."