عبد المنعم الأعسم /
شغل المؤرخين اختيار المنصور العام 762م تلك الواحة من البساتين الواقعة في نقطة يقترب فيها نهرا دجلة والفرات إلى أدنى مسافة لتكون عاصمة له، بدل العاصمة القديمة. ويجمعون على أن مناخها لم يكن من بين أحكام هذا الاختيار، باستثناء ملاحظة أوردها المؤرخ (يعقوب اسنر) حول (قلة البق فيها). في حين أشار العديد من الشهادات إلى أن الخلافات التي عصفت في البلاط العباسي كانت وراء البحث عن نقل دواوين الدولة إلى مكان آخر، وعاصمة بديلة. ويقال إن السيدة زبيدة، زوجة هارون الرشيد، كانت قد ناشدت شاعر البلاط (منصور النمري) أن يلفق مديحاً لمناخ المكان المختار للعاصمة الجديدة في قصيدة تطيّب خاطر زوجها، وتجمل له البقاء في بغداد، فأنشد يقول: "تحيي الرياح بها المرضى إذا نسمت / وجوّشتْ بين أغصان الرياحين" ولقد وصف الجغرافي العربي شمس الدين (المتوفى عام 990م) في مؤلفه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) جو بغداد بالسمائم، نسبة إلى السموم، ولاحظ أن سكان المدينة "اتخذوا الخيط الغليظ للتبريد.. يبلونه بالماء فيبرد ما يلامسه من الهواء، أما أثرياؤهم فكانوا يغشون الخيط بظهارة من النسيج الدبيقي المصنوع بماء الورد والكافور والصندل." وبين أيدينا شهادة الخطيب البغدادي، المتوفى 1072م عن "طيب هواء بغداد وعذوبة مائها، وبرد ظلالها وأفيائها، واعتدال صيفها وشتائها، وصحة ربيعها وخريفها." فيما ذهب اليعقوبي في (كتاب البلدان) إلى القول "فاجتمع بها ما ليس من مدينة في الدنيا، وباعتدال الهواء وطيب الثرى، وعذوبة الماء، حسّنت أخلاق أهلها، ونضّرت وجوههم، وانفتقت أذهانهم." بالمقابل لاحظ الأديب الدمشقي علي بن عبد الله الغزولي، المتوفى عام 1412م في كتابه (مطالع البدور في منازل السرور) إلى أن سكان بغداد يتقون الصيف بمراوح تشبه شراع السفينة، تعلق في سقف البيت ويشد بها حبل يديرها، وهي تبل بالماء، فإذا أراد الرجل أن ينام جذبها من حبلها، فتذهب بطول البيت وتجيء، فيهب فيها نسيم بارد طيب. فيما يؤكد ابن أبي أصيبعة في (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) أن أول من احتال بالعِلم على حر بغداد هو العالم البغدادي يختيشوع بن جبرائيل، الذي استجاب لطلب المتوكل، وكان طبيبه الخاص، في معالجة الهواء، فاستخدم صفائح وطاقات من الخيش وقماش الكتان الناعم ومحضرات تقوم بتلطيف الهواء وحصره. وعثرنا على شهادة حية عن (صيف بغداد) تعود إلى منتصف القرن الماضي، وكان قد دوّنها الأديب المصري أحمد حسن الزيات، يوم نُسّب للتدريس فيها، تقول إنه "لا يطيب العيش مع صيف هذه المدينة، ولا ينفع فيه ثلجٌ "فهو كقلب المهجور، أو كالتنور المسحور." ويضيف القول إن "السنة في العراق فصلان، شتاء وصيف، وليس بين الفصلين المتعاقبين إلا استراحة قصيرة.. هذا في العام، أما في اليوم فيطلع الحر بطلوع الشمس، ثم يصعد بصعودها، حتى إذا أقبل الضحى بلغت الحرارة خمسين درجة مئوية في الظل، وانقلب البيت فرناً من غير وقود، والهواء لهباً من غير دخان، وحينئذ تحس كأن روحاً نارية تمتد إلى وجهك فتحرقه، وإلى نفَسك فترهقه، وإلى صدرك فتضيقه.. فكانت أيام الصيف في بغداد لفحات من سعير جهنم." ويتابع الزيات تأثيرات الصيف اللاهب على صديقه الزعيم التونسي عبد العزيز الثعالبي، اللاجئ آنذاك إلى العراق، فيتحدث عن لقائهما في ظهيرة صيف بغدادية.. يقول: "دعاني الزعيم ذات نهار من نهارات تموز إلى الغداء، فتحاملت على نفسي، وذهبت إليه في الظهيرة، فوجدته في الحجرة السفلى من داره، متهالكاً على فراشه، وقد تعرى جسده البدين البطين، إلا من إزار كإزار الحمّام، وتخففت من بعض ثيابي ثم جلست أناقله الحديث، وتعجبَ كيف ازدهرت حضارة بغداد في هذا القيظ الطويل.. واشتد الحال فعجزت عن الكلام، وعجز هو عن الأصغاء." ولا يجد الزيات جواباً عن حيلة المرء إزاء لهب الشمس إلا عند أعرابي من بدو العراق فيسأله: "كيف تصنعون في البادية إذا اشتد القيظ؟" قال الأعرابي: "يمشي أحدنا ميلاً فيتصبب عرقاً، ثم ينصب عصاه ويلقي كساءه في ظله، يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى."