100%
حسين محمد عجيل
منذ صباهُ المبكرِ حين رُوّع بوفاة والده، تاركًا له أربعة إخوة وأخوات صغار، في ظروف اقتصادية قاهرة فرضتها الحرب الكونية الأُولى، حتى ضحى الثلاثاء 10 نيسان 1956م، لم يُوفر الصحفي الرائد والأديب رُفائيل بطّي (1899 - 1956م) الذي تحل هذا الشهر ذكراه الـ 69، ساعةً من يقظته في نهاراته ولياليه، إلا في عمل أو تخطيط لمهمات يُؤديها بإتقان، أو تعلُّم ثم تعليم، أو في قراءةٍ تتلوها تأملات، فحوارات منتجة، وتتوجها كتابات ثرية تتضح فيها بصماته.
فارق الدنيا وهو في ذروة انهماكه بالشأن الوطني العام، بعد رحلةِ خمسة عقودٍ ونصف مكتنزةٍ بالمُنجز النوعي، ما توقع هو أن تكون شاقة على النحو الذي عاشه، ولا توقع محبوه أن تنتهي وهو في مستهل كهولته، لا يزال يحمل بعض سيماء الشباب وعنفوانه، مخططًا لمشاريعَ يتطلب إنجازها عقودًا.
ذبحة قلبية
دوّن نجله الأصغر الصحفي المعروف فائق بُطّي، الذي تولى رئاسة تحرير جريدته الرائدة (البلاد) من بعده، وقائع اليوم الأخيرِ في حياته، وهو يُقدم لمذكراته، على هذا النحو: "نهض مبكرًا كعادته، وأخذ يطالع في مكتبته ويمْلي على كاتبٍ قريب له مُؤلَّفه عن الزهاوي حتى الساعة التاسعة، اتصل بعدها بإدارة الجريدة مستفسرًا عن المحررين، ثم اتصل بالسفير السوري مذكرًا إياهُ بالموعد في الساعة العاشرة والنصف، وأخذ يتهيأُ لمغادرة الدار. إلا أنه، وفي الساعة العاشرة، أحسّ بألمٍ في معدته، حسِبَه من مُسببات سهرة الأمس على مائدة صالح جبر، بصحبة الوفد البرلماني السوري. استلقى على فِراشه والساعة شارفت على العاشرة والدقيقة العاشرة، فكانت إشعارًا للآخرين بأنه فارق الحياة بالذبحة القلبية الساكتة."
النص التأسيسي الأول
وقبل ذلك، وثَّق نجلُه نفسُه في كتابه (أبي رُفائيل بُطِّي) الصّادرِ ببغدادَ عامَ رحيلِه، برنامجَ والدِه اليومي، كاشِفًا عن حقائقَ لا يعلمها عن الفقيد سوى أُسرته، كصلته اليوميةِ بالقُرآن الكريم، النص التأسيسي الأول للّسان العربي، ولا أشكُّ في أنها من نصائحِ أُستاذه الراهب والعَلّامة اللّغوي أنستاس الكرملي، الّذي أدركَ مُبكرًا أهميةَ هذا النص الاستثنائي لكلِ الناطِقين بالعربية، بغضّ النّظر عن تبايُنِ أديانِهم، ولاسيما حَمَلة الأقلام منهم، فهو الذي فتحَ عيني بُطِّي على عُيُون التراثِ العربي، وأمدَّه بذخيرةٍ خصَّبَتْ وعيَه، وكانت من روافدِ ثقافته.
وممّا جاء في الكتاب: "لم ينسَ يومًا، وهو غارِقٌ في لجّةِ العمل الصحفي السياسي، تجويدَ القُرآنِ الكريمِ في فجر كُل يومٍ، وقبل الشروع في الكتابة، وما بين الحالتين، يكون قد قرأ صفحاتٍ في أكثرَ من كتابٍ واحدٍ، سواء في الأدب أو السياسة أو الإصدارات الجديدة، وهي طريقتُه المحبَّبة إلى نفسه لاستيعاب كُل جديدٍ، تواصلًا مع القديم، وفي بعض الحالات يقرأُ كتابًا ويُضيفُ إليه عددًا من الصفحاتِ تحتوي على الهوامش والتعليقات وبعض المصادر المتعلقة بالموضوع."
ثُمّ يقول عن يومه الأخير: "وعندما دخلتُ مكتبتَه بعد عودتي من الدراسة، وجدتُ على مِنضدتِه كراسًا صغيرًا مُؤرخًا بالأيّام، مُتضمنًا أسماءَ كُتُبٍ يُريدُ شراءها، وأعمالًا يرغبُ في إتمامِها، وفي نهاية صفحةِ ذلك اليوم الذي وافته المنيّة، موعدًا مع السفير السوري، وهامِشًا باللون الأحمر عن مقالٍ يستعد لكتابته عن مجموعةٍ جديدةٍ للشاعر العراقي عدنان الرّاوي."
مبشرًا بالسيّاب
تكشف إشارةُ فائق بُطِّي الختاميةُ أن شغفَ والده بالشعر لم يتوقف بتوقف تجربته الرائدة في كتابة الشعر المنثور مطلعَ حياته الأدبية، كما تُعيد إلى الأذهان واحدةً من مآثره الدّالةِ على ذائقته وحسِّه النقدي، وقُدرته على تلمُّس بُذُور الأصالة في تجارب الشعراء الأُولى، حين بشّر بالشاعر الرائد بدر شاكر السياب في تقديمه لديوانه الأول (أزهار ذابلة) الصّادر في القاهرة سنة 1947م. ولقد عاش بُطِّي عقدًا من السنين بعد هذا التاريخ ليشهدَ صِدقَ فِراستِه بموهبة الشاعر التي أخذت "تُكسبُ العراقَ فخرًا في عالم الشِّعر الحديث"، ويرى "الموهبةَ الأصيلةَ تتفجر وتفيضُ من غيرِ أن تخضعَ للحُدُود والقُيُود"، كما كتب في مُقدّمته تلك.
رثاء الإذاعة
واستذكر عبد الغني الدَلِّي، الذي تولى وزارةَ الزّراعة حين كان بُطِّي وزيرَ دولةٍ في حُكومة محمّد فاضل الجَمالي (1953 و1954م)، وقْعَ خبر رحيله بقوله: "شعرتُ بصدمةٍ عنيفةٍ عندما بلغني من الإذاعة (10 نيسان 1956) نبأُ وفاته المُفاجئ.. لقد كان في أوْجِ نشاطِه وعطائه، ولم تبدُ عليه آثارُ الوهن أو الإعياء... ولذلك فقد بادرتُ من فوري إلى القلم لأُعبّر عن شُعور الحُزن الّذي اعتراني إزاء هذا الحادث الفاجِع."
ووثَّقَ الدلِّي مُشاهداتِه وهو يُسارعُ إلى دار الفقيد بمحلة البتّاويين للمُشاركة في تشييعه، مُبديًا دهشته ممَا رآه من تزاحم النّاس على تشييع شخصيةٍ موصليةٍ لا يُعرف عنها الاحتكاك بعامّة الناس وليست لها أقاربُ في بغداد: "أدهشني عندما وصلت المكانَ حضور جمهورٍ غفيرٍ من مُختلف الفئات والطبقات في زحامٍ شديدٍ لم أكن أتوقّعه." ثُم يستدركُ: "لقد كانت للرجل مكانةٌ في ضمير الناس، وكان رثاءُ الإذاعة له مُؤثرًا."
أزاهيرُ إيزيس
وروى الدُبلوماسي والكاتب نجدة فتحي صفوة، في كتابه (هذا اليوم في التاريخ)، الحدثَ من زاويةٍ أُخرى يبدو أنه تلقاها من ابنته إيزيس: "وفي صبيحة 10 نَيْسان 1956 خرجَ رُفائيل بُطِّي إلى حديقة داره الأماميّة وكان بكامل صحته، وقطعَ بعضَ الأزاهيرِ لابنته إيزيس، وقبَّلَها قبل أن تركب حافلةَ المدرسة الّتي تمرُّ على دُور التلاميذ، واستلقى على سريره، وأغمض عينيه في رقدته الأبدية إثرَ سكتةٍ قلبيةٍ مُفاجئة."
وأَختمُ بعبارة صفوة عن صدى رحيله: "وصدرت صحفُ بغدادَ تحمل صورَ رُفائيل بُطِّي في صفحاتها الأُولْ، وشُيِّعَ إلى مثواه الأخير تشييعًا قَلَّما عرفت بغدادُ مثيلًا له."