يا للعجب! أغمض عينيك وقل: خضير فليح الزيدي ستجد نفسك في هوامش بغداد

تحقيقات

يا للعجب!  أغمض عينيك وقل: خضير فليح الزيدي ستجد نفسك في هوامش بغداد
100%
محمد غازي الأخرس ما كان لي إلا أن أسحر به وبعوالمه، قلت له ذلك مرات ومرات، وكنت دائمًا أعدّ نفسي للكتابة عنه، ليس مقالة عابرة أبدًا، بل ربما أكتب فصلًا في كتاب. خضير فليح الزيدي، رفيقي في المركب نفسه، حيث يشدنا قاع المدينة وسراديبها المليئة بالخردة. سافرنا معًا أكثر من مرة، وجمعتنا رحلات إلى هذا المهرجان أو ذاك، وخلال ذلك، كنت أستنطقه عن اشتغالاته الكتابية، من الأنثربولوجيا الثقافية التي تغرق في تفاصيل الحياة اليومية، إلى الروايات الجميلة الساحرة حيث الملوك المنسيين والعشاق والمجانين والقتلة والقتلى والمهووسين بالبحث عن الحقائق، يتزاحمون في عالم يضج بالغرائب. سألت صاحبي الزيدي عن بدايات اهتمامه بالهوامش والقاع وسقط متاع الحياة، فقال إنه وجد ذاته "بين باعة الأرصفة وعمال المساطر العائدين من دون عمل، وباعة البالات في الباب الشرقي." ينصتُ إلى "صاغة النكات في مراتعهم، والنساء الأرامل وزوجات المفقودين على باب التجانيد، والتلاميذ الكسالى الراسبين، ودوّارة المناطق الراقية يطلّون بحقد من الأسيجة على حدائق البيوت. ولو تأملنا الجنود في ظلِّ الحرب وفي ظلِّ السلم، سنكتشف المفارقة الكبرى في حياة أيّ جندي منهم بوصفه هامش حياة في السلم ومركزي في لظى الحروب." يقول إنه عاش شطرًا طويلًا يمتد لـ 8 سنوات في تلك المتوالية، وفي هذه الفترة، أدرك المعنى الخفي للهامش والمركز، "فأنا بطل وفاتح ومركز اهتمام في المعارك العبثيّة، وهامش متروك في المعسكرات الخلفيّة. هامش يصلح دائمًا ليكون (جندي شغل) للهدم والبناء، وهذا مصطلح حربي ينشط كثيرًا، وليس له معنى حقيقي خارج صراع الهامش والمركز. من هنا ارتبطت حياتي بهذه الشرائح المسحوقة من جند الحروب، حين أصغي لهمومهم وأدوّن أحلامهم على الورق، وأبعث رسائلهم الورقية لأمهاتهم وزوجاتهم." لقد دوّن خضير فليح الزيدي تلك الأفكار في مشاريع سرديّة متوالية في جريدة الصباح بسلسلة طويلة بين عامي 2005 – 2007، تبنّاها الصديق المفقود توفيق التميمي وتحمّس لها بوصفها سرديات عصر جديد، إنه يحكي عن مراكز التدريب، و(الريمات)، وتاريخ الكنى، والوثيقة السوداء لدفتر الخدمة، يحكي عن رسائل الجند، وعربة الأرزاق ولحم الكناغر البرية، وشاي المواضع القتالية. ليس هذا فقط، فقد كتب فصلًا عن هامش تلك الحرب في روايته (صديقي المترجم)، ومن هنا غدا هامشًا إضافيًّا في هامش الكتابات المنسيّة. الحياة أم السرد؟ خضير فليح الزيدي ابتدأ وأثار الانتباه بكتابة أنثربولوجية تستبطن عوالم المهمشين وتمزج التأملات بالنقد، وتاريخ المجتمع بالسرد، إلا أنه ذهب باتجاه الرواية أكثر فأكثر خلال السنوات العشر الأخيرة. يبرر الزيدي ذلك بالقول: "نحن نعيش في قدور ماء يغلي، نسلق سلقًا كي نكتب تجاربنا في درامية هذه الحياة." وغالبًا ما تشغله اهتمامات القراء، لذلك يحاول دراسة أمزجتهم وهواهم في القراءة، يضيف: "وجدت في طور من حياتي أن أكتب منفلتًا من اشتراطية مناهج السرديات الفنية، فذهبت إلى كتابة مسؤولة في سرديتها لكنها خارج التجنيس، فجاءت كتب (الباب الشرقي، ومملكة الضحك من الميدان إلى باب المعظّم، وابن شارع، وشاي وخبز)، وحاليًّا أعكف على كتاب (الدشداشة والبنطلون)، وكلّها تشتغل في معنى السرديات العميقة بمقاربة من اشتغال رولان بارت في الأسطوريات الأربع، الكتاب الذي أذهلني بأفكاره وطريقة سرده، ولكنّني تحولت إلى كتابة الرواية الصرفة حين وجدت طاقتي السردية تتبلور في هذا الجنس من السرديات المحكمة." كذلك فإن مزاج القراء تحوّل نحو قراءات الروايات العراقية، قبل أن يهجرونها في السنين الأخيرة.. كما يعتقد. هو يرى أيضًا حقًّا أنَ (كتاب الباب الشرقي – رواية الضحك بلا سبب-) هو المنطلق الأساس لخضير فليح الزيدي، ويأتي بعده كتاب (خبز وشاي) ورواية (فندق كويستيان) ورواية (أطلس عزران البغدادي) و(الملك في بجامته)، ورواية (المدعو صدام حسين)، ورواية (عمتي زهاوي) و(يوتيوب) و(دعْ القنفذ ينقلب على ظهره) ورواية (بنات غائب طعمة فرمان) ومن ثم قصص (خالي فؤاد التكرلي)، وهكذا تستمر السلسلة. حياة بغدادية في سلسلة أسفار خضير فليح الزيدي لابد من التوقف عند حكاية انتقاله من الناصرية إلى بغداد عام 2007. حينذاك ابتدأت رحلته المتقطعة إلى بغداد، حتى أغوته "الحياة البغدادية في الأزقة والدرابين وحارات قنبر علي وأبو دودو وأبو سيفين والحيدر خانة وفنادق الدرجة العاشرة، وصولًا إلى معقل الهوامش الدرامية في الباب الشرجي، لذلك قررت الارتحال إلى مدينة التاريخ الحقيقي والصراعات الخفية في تنوعها الثقافي والقوماتي والطائفي، فكنت أصغي كي أفكك ما يجري لأصنع دراما سردية خاصة بي." في عام 2009 جاء قراره الأخير لمغادرة الناصرية بحقيبة صغيرة والعيش في الفنادق والشقق الرديئة، قبل أن يستقر في بيته الخاص به. يقول: "بغداد مدينة الضوء والمركزيات والهوامش معًا. العين تكتشف والعقل يحلل عقد الصراع ما بين بؤرتين، الأولى في الضوء / مركز، وأخرى في الظلمة / هامش." إنه مهووس بهذه العوالم، لهذا كتب ذات مرّة عن (شمّامي السيكوتين)، صباغي الأحذية، وعن مقهى المتقاعدين الذين يتحلقون لمتابعة أفلام كارتون ولعبة توم وجيري. يقول: "هذا الصراع غير موجود في الناصرية، المدينة التي فقدت هويتها التاريخية، وغدت مجرد سوق وشوارع سود وعيادات ومختبرات طبية. فقدت الناصرية عصبة المخمورين على نهر الفرات بعد وفاة آخر مخمور على النهر، ومات آخر نكّات ولم يترك له ظلّا خلفه، ففقدت بوصلتي في تلك المدينة كي أبحث عن مدينة أخرى، مدينة تنتعش فيها تلك العوالم المتناقضة، فكانت بغداد حاضنتي الملهمة." هل خضير فليح الزيدي كاتب ناجح؟ سؤال لا يصح على صديقي الذي تأخرت شهرته كثيرًا، فهو من جيل السبعينيات، لكنه بقي في الظل طويلًا، وخلال عقود تحولت الكتابة عنده إلى هوية ووجود. مع هذا، هو يشكو دائمًا من تراجع القراءة، ومن يشكو هذه الشكوى لابد أنه يضع الآخر في جوهر عمله. إنه محبط من هذا الأمر، يقول: "ما نفع الكتابة من دون قرّاء. يموت الكتاب وتضمحل الكتابة من دون الطرف الآخر -أقصد القارئ- نحن نعيش في يومنا هذا تحت سلطة القارئ." بالرغم من الشكوى والإحباط، لا يمكن لصاحبي أن يتوقف عن هوسه في تدوين الحياة. إنه يكتب ويكتب، ولا تكاد تمر أشهر إلا ويفاجئ الآخرين برواية أو مجموعة قصصية. ودائمًا أبطاله مجانين وغرباء أطوار ومثقفون، دائمًا هناك كواليس مدينة تبحث عمن يكتشفها. كأن الرجل ساحر؛ فقط أغمض عينيك وقل: خضير فليح الزيدي وستجد نفسك في هوامش بغداد.

إقــــرأ المــــزيــــــــد

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال
تحقيقات

العلكة الكردية.. سحر الطبيعة وثمرة الجبال

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي
تحقيقات

حين تمتزج الأرض بالتقاليد.. قصة (تنباك الجدول الغربي) الذي يغزو المقاهي

حياة بلا تواصل اجتماعي..  هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟
تحقيقات

حياة بلا تواصل اجتماعي.. هل مازال في وسعنا أن نعيش في العالم الافتراضي؟

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟
تحقيقات

أرصفة بلا مارة.. كيف تحولت شوارع بغداد إلى غابة من التجاوزات؟

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي
تحقيقات

من الورق إلى الكود.. الهوية الجامعية تدخل العصر الرقمي

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"
تحقيقات

العراق: "الدولة والمجتمع خلال قرن"

أبرز الأخبار

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

كيفــ ترد على من يحاول التقليل من شأنك؟

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

يارا خضير: أرقص من أجل السلام

قصة إعدام الفنان صباح السهل

قصة إعدام الفنان صباح السهل

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

السحر الأسود.. يقلق راحة الموتى والأحياء المتاجرة بأدوات غسل الميت وأعضائه

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

صلاح عمر العلي:300 عضو قيادي اختفوا بعد اجتماع قاعة الخلد

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

رنين تبوني: بالشعر.. اهرب من الواقع !

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج

تاريخ ورمزيّة خاتم الزواج