100%
سجى رشيد
تصوير / AFP
حيث يمتزج عبق التاريخ بنبض الإيمان، تقف مدينة الكاظمية المقدسة شامخةً كأحد أهم المراكز الدينية والروحية والثقافية في العراق والعالم الإسلامي. هذه المدينة التي نشأت في القرن الثاني الهجري حول ضريحَي الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد (عليهما السلام)، لم تكتفِ بمكانتها الدينية، بل أرست لنفسها هوية حضارية متكاملة تجمع بين التراث والأسواق الشعبية والحِرَف التقليدية والمواقع الترفيهية، ما يجعلها وجهةً سياحية فريدة تستحق الوقوف عندها
تنبض بالإيمان والضيافة
"تقع الكاظمية شمالي العاصمة بغداد، وتمثل مركزًا روحيًا وثقافيًا مهمًا، إذ تستقطب سنويًا ملايين الزائرين من داخل البلاد وخارجها." يقول علي ياسين، مدير العلاقات الدولية في هيئة السياحة، مضيفًا أن "الهيئة، بالتعاون مع مختلف الجهات الحكومية، تعمل باستمرار على تطوير البنية التحتية وتحسين الخدمات، لضمان تجربة آمنة وممتعة للزائرين."
ياسين أشار إلى التنسيق المتواصل مع الجهات الأمنية والبلدية والصحية خلال مواسم الزيارات الكبرى، حيث تُشكَّل غرف عمليات تعمل على مدار الساعة لضمان انسيابية حركة الزائرين وتوفير جميع الاحتياجات الأساسية.
معالم تأسر القلوب
الكاظمية ليست مجرد مزار ديني، بل مدينة تعجّ بالمعالم التي تضيف بُعدًا ثقافيًا واجتماعيًا لتجربة الزائر. ففي مقدمة هذه المعالم تبرز العتبة الكاظمية المقدسة، التي تتلألأ بهندستها الإسلامية وروحانيتها العميقة. إلى جوارها، تنتشر أسواق تراثية كـ (سوق الاسترابادي)، المعروف ببيع المسبحات والعطور والكتب الدينية والملابس والهدايا التذكارية، حيث يمكن للزائر اقتناء ما يحمله من عبق المكان إلى بلاده.
وعلى ضفاف دجلة، يمتد كورنيش الكاظمية، متنفسًا طبيعيًا يضفي أجواء من السكينة والهدوء للعائلات والزائرين. كما تضم المدينة (متنزه 14 تموز)، أحد أكبر المساحات الخضر في بغداد، الذي يحتضن فعاليات ثقافية واجتماعية متنوعة، ويعكس الوجه الحيوي للمدينة.
في سياق سعيها لتعزيز السياحة الدينية الوافدة، تنسق هيئة السياحة مع وزارتي الخارجية والداخلية لتسهيل إجراءات منح التأشيرات للزوار من دول مثل إيران، ولبنان، وباكستان، والهند. ويجري إعداد برامج دينية متكاملة تشمل جولات إلى مراقد أهل البيت (عليهم السلام) والمواقع الإسلامية التاريخية الأخرى في العراق، ما يجعل من الكاظمية محطة محورية في أي مسار ديني في البلاد.
يقول ياسين إن "هذا النمو في عدد الزائرين يتطلب مزيدًا من الاستثمار في البنية التحتية والخدمات، فضلًا عن تكثيف حملات الترويج، لترسيخ مكانة الكاظمية على خريطة السياحة الدينية العالمية."
الهوية المتفرّدة للكاظمية
الشيخ عدي الكاظمي، مسؤول قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الكاظمية، أكد أن الكاظمية تُعد المدينة الإسلامية الأولى التي سُمّيت على اسم إمام معصوم، وهو الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام). وأشار إلى أن بعض النصوص التاريخية تؤكد أن الإمام الكاظم مرّ بالمنطقة عندما كانت بساتين نخيل، فاشتراها من حرّ ماله، لتكون موضع دفنه لاحقًا.
السياحة الدينية ليست فقط تجربة روحية، بل إنها أيضًا محرك اقتصادي مهم. هذا ما يؤكده الحاج رزاق أبو أباذر، صاحب أحد محال بيع العباءات في الكاظمية، قائلاً: "السياحة تُعدّ مصدرًا أساسيًا للدخل في كثير من الدول. ونحن في العراق نمتلك فرصة ذهبية عبر السياحة الدينية، خصوصًا أن الزائر يأتي محمّلاً بالعاطفة والنية للإنفاق".
ويضيف: "في المواسم الدينية، تزدهر تجارتنا. النساء والفتيات يقبلن على شراء العباءات السود والفوط النسائية الفاخرة. السياحة هنا زمانية ومكانية في آن واحد، وهي تعطي الحياة للأسواق."
صناعة تتلألأ بالإرث
أما السيد عمار، أحد الصاغة المعروفين في السوق، فيرى أن السياحة الدينية تمنح دفعة قوية لسوق الذهب، إذ يقول: "في كل موسم زيارة، نشهد إقبالًا ملحوظًا على شراء المصوغات. غالبية الزوار يرغبون باقتناء هدية ثمينة تخلّد الزيارة، والكاظمية مشهورة بصياغة الذهب منذ عقود، حتى عُرفت باسم (مدينة الذهب)."
يضيف عمار أن "معظم المصوغات تُستورد من مناشئ عالمية، مثل إيطاليا وتركيا، وتتميّز بجودتها العالية وتصاميمها العصرية." مشيرًا إلى أن "السوق المحلي يحاول دائمًا مواكبة الأذواق المتنوعة للزائرين من داخل العراق وخارجه."
تجربة لا تنسى
تجربة زيارة الكاظمية المقدسة لا تقتصر على أداء مناسك دينية، بل هي رحلة إلى قلب العراق بكل ما فيه من تراث وإنسانية وروحانية.
الشاب حسن سليم، أحد الزائرين، يعبّر عن انطباعه العميق قائلًا:
"كنت أسمع كثيرًا عن الكاظمية، لكن لم أتوقع أن تكون زيارتي لها بهذه الروعة. منذ لحظة وصولي، شعرت أنني في عالم مختلف، عالم يمزج بين الروحانية والضيافة الشعبية. لم أشعر أنني غريب أبدًا."
يضيف حسن: "الأسواق، المقاهي، المواكب، والكرم اللامحدود، كلها أشياء تبقى محفورة في الذاكرة. لكن في المقابل، لاحظت وجود نقص في بعض الخدمات السياحية كالفنادق ووسائل النقل ومراكز الإرشاد بلغات متعددة. الكاظمية تستحق أكثر من ذلك."
وسط هذا الزخم من التاريخ والإيمان والحياة، تبقى الكاظمية مدينة لا تنتهي عند بوابة الحضرة، بل تبدأ منها. إنها دعوة مفتوحة لكل من يبحث عن السكينة، ويريد أن يكتشف عراقًا آخر، عراق الروح والجمال.