100%
إعداد وترجمة: أحمد المولى
في عالم العلوم، حيث يعتمد الخروج عن المألوف غالباً على الفرضيات الجريئة والتفكير المبتكر، هناك فضيلة تدعم التقدم بهدوء: التواضع الفكري.
العلم الحديث رحلة إلى المجهول، مع درس في التواضع ينتظر العلماء في كل محطة. ويعني التواضع الفكري بأنه الاعتراف بحدود المعرفة والانفتاح على الخطأ. وهو ليس مجرد سمة شخصية، بل حجر الزاوية في النزاهة العلمية. من الباحثين في مجال المناخ إلى رواد الذكاء الاصطناعي، يوضح التواضع الفكري كيفية تعامل العلماء مع عملهم، وكيفية التعامل مع التحديات وبناء الثقة مع الجمهور.
حقائق متغيرة
يرى المفكر (جاي وود)، أن التواضع الفكري يعزز البصيرة العلمية، ويقول إن "التواضع لا يشحن قوانا المعرفية بشكل فائق فحسب، بل يغيّر العلماء بطرق تسمح لهم بتوجيه قدراتهم وممارساتهم بكفاءة أكبر." في حين تبدو أقرب إلى البديهية مقولة إن الباحثين والعلماء يصححون أخطاء ولا يكتشفون حقائق، لأن الحقائق متغيرة.
لكن ذلك ليس بالأمر الهين، إذ يقول عالم الفيزياء الفلكية المعروف (نيل ديجراس تايسون) إن "من السهل أن تعتقد أنك تملك المعلومات الكافية التي تجعلك تظن أنك على صواب، ولكن من الصعب أن تعرف أنك لا تملك المعلومات الكافية التي تجعلك تعرف أنك على خطأ."
لكن دراسات الباحث في جامعة بيتسبرغ (جوناه كويتكي) تكشف أن العلماء الذين يعترفون صراحةً بمحدودية النتائج التي توصلوا إليها يُنظر إليهم على أنهم أكثر جدارة بالثقة من قبل الجمهور. يقول (كويتكي): "لا يتعلق العلم بامتلاك جميع الإجابات، بل يتعلق بطرح الأسئلة الصحيحة، والاعتراف بما لم نفهمه بعد، والتعلم أثناء تقدمنا."
عقول عظيمة
في منظور العلماء لمختلف التخصصات، لا يُعدّ التواضع الفكري مجرد فضيلة داخلية، بل هو ضرورة عامة. يمكن أن يؤدي انعدام التواضع إلى تقويض الثقة في العلوم، خاصة في الموضوعات المثيرة للاستقطاب، مثل تغير المناخ، أو أخلاقيات الذكاء الاصطناعي. وكما تشرح (كارينا شومان)، وهي عالمة نفس تدرس الثقة في العلم: "عندما يفشل العلماء في التصرف بطرق تعكس التواضع الفكري، فإن ذلك يتعارض مع معايير العلم وتوقعات الناس للسلوك المسؤول."
يتوافق هذا المبدأ مع الأمثلة التاريخية. فقد أشار (توماس كون)، صاحب كتاب (بنية الثورات العلمية)، إلى أن الثورات العلمية غالبًا ما تتعثر عندما تفتقر العقول العظيمة إلى التشكيك في نماذجها المرجعية التي تحتكم اليها. يجب على علماء اليوم أن يوازنوا بين الثقة في خبراتهم والانفتاح على النقد.. وهي قضية دقيقة تضمن التقدم دون غطرسة.
يعلمنا العلم أن الفشل ليس نقيض النجاح، بل هو جزء من سيرورته. وسواء كنا نكتشف ألغاز الطبيعة، أو نصنع أجهزة ذكية، يذكرنا العلماء بأن الحكمة الحقيقية لا تكمن في معرفة كل شيء، بل في تقبُّل ما لم نفهمه بعد، والاستعداد للتعلم منه.
تقييم نقدي
علاوة على ذلك، تتعزز ثقة الجمهور في العلم عندما يُظهر العلماء تواضعًا فكريًا. تُظهر الأبحاث أن العلماء الذين يتصفون بالتواضع يُنظر إليهم على أنهم أكثر جدارة بالثقة، مما قد يحسِّن من قبول المجتمع لعملهم، بما في ذلك التطورات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي.
يكتسب التواضع الفكري أهمية جديدة في مجال الذكاء الاصطناعي الذي يشهد تقدمًا سريعًا. ويواجه باحثو الذكاء الاصطناعي تحديات فريدة من نوعها: تصميم أنظمة تتفوق على القدرات البشرية مع البقاء على دراية بتحيزاتهم المعرفية. تصف (سوهيون آهن)، الباحثة في مجال الذكاء الاصطناعي، التواضع بأنه "فضيلة عدم المعرفة." وتتذكر، وهي تتأمل في بداية مسيرتها المهنية في مجال التدريس، كيف أن الاعتراف بعدم اليقين بدا وكأنه نقطة ضعف، لكنه أصبح في نهاية المطاف نقطة قوة.
تسلط الدراسات الحديثة الضوء أيضًا على كيفية تأثير التواضع الفكري على المواقف المجتمعية تجاه الذكاء الاصطناعي. فقد وجدت الأبحاث أن الأفراد الذين يتمتعون بمستويات أعلى من التواضع الفكري كانوا أكثر قبولًا لتقنيات الذكاء الاصطناعي.
العلماء الذين يظهرون تواضعًا فكريًا هم أكثر استعدادًا لإجراء تقييم نقدي لفوائد ومخاطر التقنيات الناشئة، مثل الذكاء الاصطناعي. يعزز هذا التواضع نهجًا متوازنًا: فهو يشجع على التعلم والابتكار مع الحفاظ على التشكك في المخاطر المحتملة.