100%
زياد جسام
لا يمر الزمن كما نتخيله، بل يستقر في أعماقنا، يغير ملامحنا ويتكاثر في أرواحنا. بهذا الوعي العميق افتتح الفنان أحمد البحراني معرضه الشخصي الأول في بغداد بعنوان (الوقت – المنبه زمن لا يستيقظ)، ليحول قاعة العرض إلى مساحة اعترافات بصرية عن الغربة والحنين، وعن علاقة الإنسان بزمن لا يمكن السيطرة عليه.
المعرض قدم مزيجًا غنيًا من الوسائط والخامات، كالنحت البرونزي، والرسم، وأعمال الغرافيك، والنسيج، يعمل كل منها بلغة مستقلة تنطق بأبعاد مختلفة من الذاكرة والغياب. وقد علق البحراني على أحد جدران المعرض نصًا يقول فيه: "حملت منفاي، ليس جغرافيًا أو مكانًا، بل كنوع آخر من الزمن." وعن الخامات كتب: "البرونز، بثقله وديمومته، يتحول إلى شاهد مادي على تراكم السنين وعلى التحول والتآكل، بينما تبدو أعمال الغرافيك بالأبيض والأسود مثل صور باهتة، كصدى زمن لا وجود له الآن إلا في داخلي."
تصور ينعكس بوضوح في اختياراته التقنية وتنوع معالجاته البصرية.
رنين البرونز
تتوزع الأعمال البرونزية، حسب ما أفصح عنه الفنان، في هيئة أربع وعشرين منحوتة، كلها أشبه بساعات منضدية.
لكنها في الحقيقة ليست مجرد محاكاة للأشكال الواقعية، بل اعترافات صيغت يدويًا لاحياء المشاعر وتوثيق اللحظات. المنبه هنا، لا يوقظ صاحبه من النوم، بل يذكره بفقدانه الدائم لزمن لا يعود.
يتبدى صدى الصوت في صمت الكتلة المعدنية، وكأن البرونز نفسه يرن بذاكرة غائبة.
ما يميز المعرض، أيضًا، حضور تقنيات متعددة تكشف عن البحراني كنحات ورسام وغرافيكي في آن واحد. ففي النحت يتجلى جانب الصرامة والبناء، حيث الكتل الصلبة تترجم ثقل الزمن ووطأة الغربة.
أما في الرسم فتظهر حرية الخط وانسيابية الفرشاة وعفوية حركتها، ليعكس الجانب الأكثر عاطفية في التجربة.
وفي الغرافيك يختار الفنان الأبيض والأسود تحديدًا، ليمنح الصورة بعدًا زمنيًا اضافيًا، الأبيض يستحضر الضوء العابر، والأسود يستبقي الظلال والغياب، وبهذا التضاد اللوني يصبح العمل بمثابة مرآة لذاكرة مشوشة، صور ليست بالوضوح التام، لأنها محملة بالنقص والفقدان.
حوار الخامات
النسيج من جهته يضيف بعدًا آخر إلى التجربة، حين يستحضر الدفء الإنساني والأنثوي الكامن في تفاصيل البيوت العراقية. إدخال النسيج في المعرض يبدو وكأنه استعادة لذاكرة الملمس والحياة اليومية، ما يجعل الحوار بين الخامات أكثر شمولًا: المعدن يوثق، الخط يرسم، الغرافيك يستعيد، والنسيج يضمد.
يتجلى البعد السردي أيضًا في تناغم هذه الوسائط معًا، إذ تتوزع بين الوضوح والهمس، بين الصرامة والانسياب، ليقرأ المشاهد الزمن، ليس بوصفه قياسًا دقيقًا بالساعات والدقائق، بل زمن يقاس بالشوق والصمت، كما يصفه البحراني.
وهكذا يصبح المعرض كله محاولة بصرية لتجسيد الزمن الداخلي، زمن الذاكرة الذي لا يستيقظ.
شهادة إنسانية
أهمية هذا المعرض، في بغداد، لا تكمن فقط في أنه الأول للبحراني على أرض وطنه بعد عقود من الغربة، بل أيضًا في كونه اعترافًا فنيًا وإنسانيًا.
يقول الفنان البحراني: "معرضي الشخصي الأول، وسأبدا من هنا... إنها شهادتي الفنية والإنسانية، أهديها لكل من عاش في المنفى."
إنها عودة مشبعة بالرمزية، الفنان يعود محملًا بماضيه، لكنه يعود أيضًا ليعلن بداية جديدة.
باختصار، نجح أحمد البحراني في جعل المعرض أكثر من مجرد عرض تشكيلي.
هو حوار مع الذاكرة، مع الغربة، ومع زمن لا ينطفئ صداه، عبر تنوع التقنيات، وتباين الخامات، واستخدام الأبيض والأسود بوصفهما تعبيرًا للغياب والحضور، ويمكن القول إن البحراني قدم شهادة بصرية نادرة تمزج بين الحميمي والكوني.
وفي لحظة فارقة من المشهد التشكيلي العراقي، يصبح "المنبه الذي لا يستيقظ" ليس مجرد عمل فني، بل ناقوس داخلي يذكرنا أن ما مضى لم ينته، وأن الفن قادر على إيقاظ ما لا يستيقظ!