مملكة الحضر.. شعلــــة الحضـــــارة المتّقــــدة في قلب الصحراء

نينوى / عامر جليل إبراهيم تصوير / حسين طالب في عمق الصحراء الشمالية الغربية من العراق، وعلى بعد نحو 110 كيلومترات جنوب غربي مدينة الموصل، تنهض واحدة من أبرز المدن الأثرية في العراق، وأقدم الممالك العربية، شاهدةً على عظمة حضارةٍ قاومت الغزاة قبل آلاف السنين. إنها "مملكة الحضر"، أو "حطرا"، كما دُونت في الكتابات الآرامية القديمة. وبينما تعيش بغداد أجواء عاصمة السياحة العربية لعام 2025، كانت "الشبكة العراقية" على موعدٍ مع التاريخ، في زيارةٍ ميدانية إلى هذا المعلم الأثري الشامخ. جذور عميقة في بداية جولتنا التقينا محمود عبد الله وردي، مدير موقع آثار الحضر، ليحدثنا عن هذه المملكة قائلًا: "تعد مملكة الحضر من أوليات الممالك العربية، التي نشأت في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، ومرت بثلاثة أدوار رئيسة، بدءًا من دور التكوين والنشوء والتوسع، ثم دور السادة، إذ كان الحكم بيد زعيم القبيلة. واستمر هذا الدور قرابة قرن من الزمان، حتى دور الملوك، حين تطور نظام الحكم إلى ملكي مستقل وتم فيه فصل الدين عن شؤون الدولة." يضيف وردي: "حكم مملكة الحضر أربعة ملوك أقوياء، هم: الملك ولكش، والملك سنطرق، والملك عبد سميا بن سنطرق، والملك سنطرق الثاني بن عبد سميا. أما ديانة الحضريين فكانت وثنية، إذ يعبدون الشمس كإله رئيس، إلى جانب آلهة أخرى مثل: اللات، وشحيرو، والتثليث، وسميا، ومرن، والسقايا، وكانوا يصنعون لها تماثيل حجرية ويقدمون لها القرابين داخل المعابد." حصون عصية يشير وردي إلى أن الحضر كانت تقع على مفترق طرق التجارة، ما جعلها مركزًا مهمًا على مستوى المنطقة. مضيفًا أن "المدينة تمتاز بتحصيناتها الدفاعية، إذ يحيط بها سوران، الأول ترابي بطول تسعة كيلومترات، والثاني حجري بطول ستة كيلومترات، مدعّم بمئة وواحد وسبعين برجًا دفاعيًا، فضلًا عن خندقٍ بعمق خمسة أمتار وعرض ثمانية أمتار، يسبق السور الثاني. تضم المدينة كذلك أربعة أبواب رئيسة تؤدي إلى مركزها الديني، إضافة إلى شوارع رئيسة تمتد إلى قلب الحضر." مؤكدا أنه على الرغم من تعدد المحاولات، لم تستطع أي من الإمبراطوريتين الرومانية أو الفارسية إخضاع الحضر، بفضل تحصيناتها القوية وبسالة جيشها، وقد دام حكمها أربعة قرون. آثار شاهقة من جهته، يقول رويد موفق الليلة، مفتش آثار وتراث نينوى: إن "من أبرز معالم الحضر مبانيها الضخمة ومعابدها الشاهقة وأسوارها المنيعة، التي صمدت لأكثر من 2200 عام، كما أنها تمتاز بهندسة معمارية مبهرة، ومنحوتات فنية خلدت الإبداع العراقي القديم." متابعا بأسى: "عندما احتل تنظيم داعش الإرهابي مدينة الموصل في 10 حزيران 2014، امتدت يده السوداء إلى الحضر، فدمّر تماثيلها ومنحوتاتها التي كانت تزين واجهات المعابد الرئيسة." لكن الأمل سرعان ما عاد، كما يشير، إذ تحررت الحضر في 26 نيسان 2017 على يد قواتنا الأمنية البطلة، بعد أن رُويت أرضها بدماء الشهداء الزكية. واليوم تعود لتنهض من جديد، وتستقبل الزوار والبعثات التنقيبية والسياحية من مختلف أنحاء العالم. رمز العراقة يعود وردي ويختم حديثه بالقول: "الحضر ليست مجرد مدينة قديمة، بل رمز لعراقة الإنسان العراقي، الذي شيد حضارات أبهرت العالم، وظلت صامدة بوجه العدوان والغزاة. واليوم، تتجدد الحياة في هذا الموقع الفريد، وتعود الحضر لتكون قبلةً للمهتمين بالتاريخ، والآثار والسياحة، ولتبقى شعلة لحضارة متّقدة في قلب الصحراء."