الديوانية.. مدينة الآثار والأنبياء جوهرة حضارية..عظمة الماضي وثراء الحاضر

الديوانية/ عبد العزيز الناصري تتربع مدينة الديوانية في قلب العراق، على ضفاف الفرات الأوسط، كجوهرة حضارية ضاربة بجذورها في عمق التاريخ. فمنذ فجر الإنسانية، كانت هذه الأرض ملتقى الحضارات وميدان التفاعل الإنساني، حيث احتضنت أعرق المدن السومرية والبابلية، وظلت شاهدة على مسيرة الإنسان في بحثه عن المعنى والاستقرار. جمعت الديوانية بين عبق الحضارة القديمة ونور الرسالات السماوية التي مرّت من هنا، لتصبح بحق مدينة الآثار والأنبياء وإذا كانت مدن العراق الأخرى قد اشتهرت بمآثرها وتاريخها، فإن الديوانية جمعت بين عبق الحضارة القديمة ونور الرسالات السماوية التي مرّت من هنا، لتصبح بحق مدينة الآثار والأنبياء. الشرائع الأولى تعود أهمية الديوانية إلى احتضانها مواقع أثرية بارزة، مثل نفر (نيبور)، العاصمة الدينية للسومريين والبابليين. في نفر، كان الإله (إنليل) معبود السومريين، ومنها انطلقت الشرائع الأولى التي ربطت بين الأرض والسماء في عقل الإنسان القديم. يذكر المؤرخون أن نفر لم تكن مجرد مدينة، بل كانت مركزًا روحانيًا تُشد إليه الرحال، حتى صارت رمزًا لسلطة المعبد ومرجعية الحكام. كما تنتشر في أطراف الديوانية أطلال المدن القديمة والقرى التي احتضنت حضارات متعددة، مثل (إيسن) و(كيش)، وغيرهما من الحواضر، التي كانت يومًا ما عامرة بالحياة، ثم تركت بصماتها لتبقى علامات مضيئة في سجل الإنسانية. هذه الأرض لم تقتصر على الحضارة المادية وحدها، بل كانت معبرًا لرسالات السماء، فجعلت من الديوانية نقطة التقاء بين التاريخين البشري والنبوي. مكانة روحية من أبرز ما يميز الديوانية ارتباطها بروايات دينية وشعبية تتحدث عن دفن ثلاثة من أنبياء الله فيها، ما أكسبها مكانة روحية مميزة. يُذكر أن النبي شعيب (عليه السلام) يرقد في منطقة الشوملي، شمال شرقي الديوانية، وقد جعل وجود مرقده من المكان مقصدًا للزائرين والباحثين عن البركة. أما النبي يونس (عليه السلام)، فمع أن المشهور أن مرقده في الموصل، إلا أن روايات محلية تقول إن له مقامًا في أطراف نفر، وهذه التعددية في مواقع الدفن تعكس عمق حضور الأنبياء في الوجدان العراقي. ويقال إن النبي أيوب عليه السلام، الذي ضرب فيه المثل في الصبر على البلاء، له مزار في مناطق قريبة من الديوانية، حيث عاش سنين مرضه وامتحانه قبل أن يبرئه الله ويعيد له عافيته. صحيح أن هذه الأضرحة والقبور قد لا تحسمها الأدلة التاريخية القطعية، لكن حضورها في ذاكرة الناس يؤكد مدى تعلقهم بالأنبياء، ويجعل من الديوانية مكانًا يجمع بين التاريخ المقدس والتراث الشعبي. جسر حضاري ما يلفت في تجربة الديوانية أنها لم تقتصر على كونها موقعًا أثريًا فحسب، بل شكلت جسرًا بين الحضارة المادية والروحية. فمن نفر وكيش وإيسن خرجت قوانين ونظم للحياة الاجتماعية، وفي أضرحة الأنبياء تذكير دائم بالمعنى الإلهي للوجود. هذه الثنائية منحتها فرادتها، لتصبح رمزًا للإنسان في رحلته بين الحضارة والنبوة. ولا يمكن للباحث في الذاكرة العراقية أن يتجاهل مكانة الديوانية، فهي مدينة عُرفت بخصوبة أرضها وغنى مياهها وطيبة أهلها، الذين ورثوا من تاريخهم روح الكرم والبساطة. يجتمع الناس فيها حول الأضرحة في مواسم الزيارات ويستعيدون الحكايات القديمة عن الأنبياء والرسل، كما أن المثقفين والشعراء غالبًا ما استلهموا من تاريخها رموزًا في كتاباتهم، فصارت مرجعًا للروح والحضارة معًا. أسرار السومريين اليوم، ما تزال المواقع الأثرية في الديوانية بحاجة إلى المزيد من الاهتمام والتنقيب، فكل حجر فيها قد يخفي سرًا من أسرار السومريين والبابليين، وكل مزار قد يروي حكاية عن نبي أو ولي. الاهتمام بهذه الكنوز لا يعني فقط حفظ التراث، بل يعني أيضًا تعزيز هوية الإنسان العراقي وربط حاضره بجذوره العميقة، ومن يزور الديوانية اليوم يشعر أن الزمن متداخل؛ فالأطلال القديمة تروي حكاية حضارات عظمى، والقبور المقدسة تروي قصة الإيمان والصبر، وأهل المدينة يضيفون إلى كل ذلك دفئًا إنسانيًا يجعل الزائر يحس أنه بين أهله. وهكذا، تظل الديوانية مدينة الآثار والأنبياء، حاضرةً في وجدان العراق، شاهدةً على عظمة الماضي وثراء الحاضر، وواعدةً بمستقبل يليق بتاريخها. إنها ليست مجرد مدينة، بل كتاب مفتوح على صفحات الحضارة والنبوة، حيث يلتقي الإنسان بالتاريخ ويجد في حجارتها وأضرحتها ما يشد روحه إلى السماء.