كولر الداودي
في أعالي جبال برادوست شمال شرقي أربيل، تقف مغارة شاندر شاهدًا على تاريخ الإنسان قبل أكثر من ستين ألف سنة.
هنا عاش إنسان النياندرتال، وهنا أيضًا تكمن أسرار ما زالت تغيّر فهمنا للبشرية.
منذ خمسينيات القرن الماضي، حين قاد عالم الآثار الأميركي (رالف سوليكي) أولى الحفريات، صارت شاندر موقعًا محوريًا. فقد عُثر على عشرة هياكل عظمية، حول أحدها بقايا حبوب لقاح، ما فتح نقاشًا غير مسبوق: هل مارس النياندرتال طقوسًا جنائزية ودفنوا موتاهم بالزهور؟ كتابة التاريخ بين عامي 2015 و2018، عادت بعثة بريطانية لتكشف المزيد.
أبرز الاكتشافات كانت جمجمة شبه كاملة عُرفت بـ “شاندر 5”.
تحاليل الحمض النووي أثبتت أن النياندرتال لم يكونوا صيادين بدائيين فحسب، بل اتبعوا نظامًا غذائيًا متنوعًا شمل اللحوم والحبوب والمكسرات المطبوخة. هذا الاكتشاف وحده غيّر النظرة السائدة: النياندرتال امتلكوا ثقافة ومعرفة وحسًا إنسانيًا أقرب إلينا مما اعتقدنا. قصار القامة نسبيًا، ذوو بنية قوية، وأدمغة أكبر من أدمغتنا اليوم.
صنعوا أدوات حجرية، استخدموا النار، دفنوا موتاهم، وربما تحدثوا بلغة بسيطة للتعاون والصيد. بعض رسومات الكهوف في أوربا تُنسب إليهم، لتدل على بذور أول فن إنساني. انقرض النياندرتال قبل 40 ألف سنة، لكنهم لم يختفوا من حياتنا.
فجسد كل واحد منا يحمل اليوم 2–4 % من جيناتهم.
لقد ورثنا عنهم مناعة ضد البرد وأمراض العصر، وربما ورثنا أيضًا جزءًا من وعينا الجمعي. مغارة إنسانية يقول الدكتور عبد الوهاب سليمان حسن، مدير دائرة آثار سوران: إن "الأدلة تشير إلى أنهم امتلكوا شكلًا من التواصل الصوتي شبيهًا باللغة، لديهم عظمة لسان (hyoid) مطابقة تقريبًا للإنسان الحديث، وأذن داخلية قادرة على سماع ترددات الكلام، إضافة إلى وجود جين (foxp2) المرتبط بالقدرة اللغوية، ربما لم تكن لغتهم معقدة مثل لغاتنا اليوم، لكنها بالتأكيد سمحت لهم بالتعاون والصيد والعيش الجماعي." أما عن نظامهم الغذائي، أضاف: "كشفت التحاليل الحديثة عن بقايا طعام محروق يحتوي على بذور وحبوب برية ومكسرات وبقوليات، إضافة إلى لحوم، وبعض هذه الأطعمة كانت مطبوخة أو منقوعة، وهو دليل على وعي غذائي وثقافة معيشية متقدمة، تنقض الفكرة القديمة بأنهم كانوا يعتمدون فقط على الصيد." ماذا ترك النياندرتال لنا من الإرث؟ عن هذا السؤال يجيب الدكتور قائلًا: "لقد ورثنا عنهم جينات ساعدت في تقوية جهاز المناعة والتكيف مع المناخ البارد، لكن بعض هذه الجينات ارتبطت أيضًا بزيادة احتمالات أمراض مثل السكري وأمراض المناعة الذاتية." مغارة شاندر أكثر من كهف، إنها رمز عالمي للحضارة الإنسانية، تستحق أن تُدرج ضمن التراث العالمي لليونسكو. إنها ليست رحلة إلى ماضٍ منسي، بل تحقيق في ذواتنا: من نحن، وماذا ورثنا عن أقربائنا القدامى؟