زياد الهاشمي - تصوير: وكالات /
مثّلت الإجراءات الحمائية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وعلى رأسها الرسوم الجمركية المثيرة للجدل، تحولًا لافتًا في سياسة واشنطن الاقتصادية تجاه العالم، بمن في ذلك الحلفاء التقليديون. فقد تبنّى ترامب نهجًا صاخبًا وغير مسبوق يقوم على تحقيق مصالح أميركية أحادية، ولو على حساب الشراكات التاريخية، وهو ما اعتبره مراقبون انقلابًا على العقيدة الليبرالية التي حكمت تحالفات الولايات المتحدة الاقتصادية لعقود. بعد توقيع اتفاقية بريتن وودز عام 1944، عملت الولايات المتحدة، بقيادة رؤسائها المتعاقبين، على بناء نظام أحلاف اقتصادي عالمي يعزز موقعها كقوة مهيمنة في النظام الدولي الليبرالي. وقد تجسد هذا التوجه في إنشاء مؤسسات مالية عالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، كما عملت واشنطن على دمج حلفائها في منظومة تجارية ومالية بقيادة الدولار الأميركي، وهو ما تكرس لاحقاً من خلال بناء تكتلات اقتصادية متينة. ومع صعود النيوليبرالية في عهد ريغان، أصبح الانضمام إلى النظام الاقتصادي العالمي مرهونًا بتبني سياسات الخصخصة الرأسمالية، وهذا ما عزز تشكيل تحالف اقتصادي أميركي عالمي قائم على المصالح المشتركة ضمن إطار العولمة الموجهة أميركياً، ما أسهم في تعزيز النفوذ والتأثير الأميركي بنسبة 40% من مجمل القرارات المتعلقة بالتجارة والأمن خلال العقود الماضية، حسب تقرير معهد بروكينغز الصادر عام 2024. واشنطن.. مسار انكفائي عودة دونالد ترامب إلى سدة الحكم وتبنّيه سياسات اقتصادية خارجة عن المألوف، تسببت بقطيعة مع الإرث التاريخي للولايات المتحدة، ووضعت تماسك تحالفاتها موضع شك، ما عزز فرضية أن التحول في السلوك الأمريكي قد أحدث شرخًا حقيقيًا يصعب ترميمه، حتى في حال تراجع ترامب عن توجهاته المثيرة للجدل. الدكتور جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو، يرى أن نهج ترامب قصير النظر ويقوّض النظام الليبرالي الذي بنته أميركا لعقود، مضيفاً: "الحلفاء لم يعودوا يثقون بالتزامات واشنطن تجاههم". وزادت تصريحات ترامب، التي طالب فيها الحلفاء بدفع "مقابل مادي" للحماية الأميركية، من حالة الارتياب، ما دفع دولًا كألمانيا واليابان لإعادة النظر في ستراتيجياتها. أما السيناتور الديمقراطي بوب كيسي فاعتبر أن التركيز على المصالح الأحادية يدفع الحلفاء للبحث عن بدائل، ما يضعف النفوذ الأميركي مستقبلاً، وهو ما تؤكده نتائج استطلاع مركز بيو، حيث رأى 62% من قادة الرأي في الدول الحليفة أن السياسة الأميركية باتت "غير موثوقة" منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض. الصين واستثمار الفرصة بذكاء يتوقع المحللون أن سياسات ترامب ونهجه العنيف في التعامل مع الحلفاء يساهمان كذلك في دفع واشنطن للانكفاء على نفسها، ومنح الصين فرصة ذهبية لملء الفراغ وتوسيع شبكة تحالفاتها وتعزيز دورها المحوري عالمياً كقطب وند اقتصادي حقيقي قادر على سحب البساط بهدوء من تحت الولايات المتحدة وكسب حلفائها الغاضبين وتعزيز حالة التعاون التجاري معهم، ففي مقابل النهج الأميركي القائم على فرض الرسوم والعقوبات، تتحرك الصين في مسار معاكس يقوم على الانفتاح، وتوسيع الشراكات، وتقديم البدائل، وبينما يعمل ترامب على تحريك الاقتصاد الأميركي عبر سياسات تصادمية مع الخارج ذات مصالح أحادية الجانب، تعمل الصين على تحريك اقتصادها عبر تعزيز التعاون الدولي وتوسيع نطاق تأثيرها التحالفي بما يحقق مصالح متوازنة لكل الأطراف. وقد حذر التقرير الصادر عن مركز الدراسات الستراتيجية والدولية الأميركي (CSIS) من أن استمرار الإدارة الأميركية في نهجها الصدامي الحالي قد يؤدي إلى تراجع حصة الولايات المتحدة من التجارة العالمية بنسبة 10 % بحلول عام 2030، بينما ستعزز الصين حصتها بنسبة 25% خلال نفس الفترة، كما حذر تقرير لمجلة فورين أفيرز من أن "استمرار واشنطن في تجاهل مصالح حلفائها سيؤدي إلى تآكل تحالفاتها بمرور الوقت، ويمنح الصين فرصة نادرة لإعادة تشكيل النظام العالمي بشروطها." الصين بدورها لم تتأخر كثيراً في التحرك لاستثمار المناخ العالمي المضطرب والانفتاح اقتصادياً أكثر على العالم، عبر زيارات قام بها الرئيس الصيني لدول رابطة آسيان (ASEAN)، التي استوردت سلعًا صينية بقيمة 600 مليار دولار في عام 2024، متجاوزة بذلك الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة التي بلغت 439 مليار دولار في نفس العام، حيث تؤكد هذه الأرقام أن آسيا باتت السوق الأكثر ستراتيجية للصين، ليس فقط من حيث الحجم، بل من حيث التفاعل الاقتصادي التحالفي، إذ تربط الصين بدول آسيان اتفاقات تجارة حرة وشراكات اقتصادية ضمن "اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة" (RCEP)، الذي يُعدّ أكبر اتفاق تجاري في العالم من حيث عدد الدول المشاركة. لم تقتصر ستراتيجية الصين على آسيا فقط، بل امتدت إلى دول مبادرة "الحزام والطريق" في آسيا الوسطى والشرق الأوسط، وإفريقيا، وأوروبا، والتي تريد الإدارة الصينية توسيع نطاق التعاون وتعزيز نفوذها الاقتصادي العالمي. يعلق المحلل الاقتصادي ليو تشانغ من معهد الدراسات الدولية في بكين: "الصين لا تفرض شروطًا قاسية مثل الولايات المتحدة، بل تقدم نفسها كشريك يركز على المنفعة المتبادلة، وهذا ما يجذب الدول المتضررة من سياسات ترامب للتعاون مع الصين". مستقبل القطبية الاقتصادية يمكن القول إن المعضلة الحقيقية اليوم لم تعد متعلقة فقط برسوم جمركية حمائية فرضتها الإدارة الأميركية، بل أصبحت المسألة تتعلق بتنامي ضعف الثقة وبروز حالتي الشك والريبة بين الدول الحليفة من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى، ما يُنذر بحدوث تصدع حقيقي في منظومة التحالفات الأميركية يصعب إصلاحه أو ترميم تصدعاته. وإذا استمر الوضع على حاله، واستمرت الإدارة الأميركية باتباع نفس طريقتها الاستعلائية والعقابية التي تتعاطى بها مع حلفائها، فإن ذلك قد يعد إيذاناً بقرب حدوث تحولات جيواقتصادية عميقة على مستوى نظام التحالفات الاقتصادية الدولية لا تكون فيه الهيمنة الأميركية مطلقة، كما كانت سابقاً، بل ستكون الساحة الدولية مفتوحة أمام قوى صاعدة كبرى قادرة على خلق نظام تحالفي عالمي جديد يضمن مصالح الجميع بطريقة أكثر توازنًا وبعيدًا عن هيمنة هذا القطب أو ذاك.