إعداد: مصطفى ناجي /
يتساءل الكثير من المختصين والمعنيين بالشأن الاقتصادي عن الأسباب التي تمنع العراق من انشاء صندوق ثروة سيادية، او حتى صندوق للأجيال القادمة، رغم امتلاكه العديد من الموارد الاقتصادية التي يندر وجودها مجتمعة في أية دولة من دول العالم. رغم أن العراق يُعد من أبرز الدول الغنية بالموارد، خصوصًا النفط، إلا إن غياب صندوق ثروة سيادية نشط، يثير تساؤلات جوهرية حول الإدارة الاقتصادية وتخطيط المستقبل المالي للبلد. فعلى عكس دول عديدة في المحيط الاقليمي، التي أنشأت صناديق استثمارية ضخمة لضمان الأمن الاقتصادي للأجيال القادمة، ما زال العراق يعاني تبعات الحروب والتخريب والإرهاب والأزمات من دون إطار مالي ستراتيجي طويل الأجل. تنويع المصادر تكمن أهمية وجود صندوق ثروة سيادية في قدرته على امتصاص صدمات تقلب أسعار النفط، وتنويع مصادر الدخل الوطني، وتمويل مشاريع تنموية مستدامة، إذ يُفترض أن يكون صندوق الثروة السيادية ركيزة لحفظ الفوائض المالية واستثمارها خارج الحدود بما يحقق عوائد مستقرة ومدروسة. هناك عقبات بنيوية تحول دون تحقيق هذا الطموح، قد يكون أبرزها الفساد، وضعف الرقابة التشريعية، وغياب الرؤية الاقتصادية الشاملة، فالفوائض التي تتحقق أحيانًا نتيجة ارتفاع أسعار النفط، غالبًا ما تُستنزف في أبواب إنفاق غير إنتاجية. وقد أدت هذه الحالة إلى تضييع فرص ثمينة في فترات ازدهار سوق النفط، كان بالإمكان توجيهها لتأسيس بنية استثمارية متكاملة تحفظ للعراق مكانته الاقتصادية، فبلد كالنرويج، لا يمتلك ثروات نفطية ضخمة بمستوى العراق، لكنه أنشأ صندوقًا سياديًا يعد الأكبر عالميًا، ويُدار وفق قواعد صارمة من الشفافية والحوكمة. الفرصة لا تزال قائمة، لاسيما مع تحسن أسعار النفط في بعض الفترات، ولكنها مشروطة بتوافر بيئة قانونية نزيهة، وإرادة جماعية تضع مصلحة الشعب فوق الاعتبارات، فالعراق يمتلك الإمكانات، لكنه يفتقر إلى الإدارة الفاعلة والستراتيجية الاقتصادية المتماسكة. إصلاحات مؤسسية غياب صندوق ثروة سيادية للعراق ليس مجرد تقصير مالي، بل هو مؤشر على عمق الأزمة الهيكلية التي يعانيها النظام الاقتصادي، والتي لا يمكن تجاوز هذه الفجوة إلا من خلال إصلاحات مؤسسية عميقة، وإطلاق مشروع وطني جامع يضمن استخدام عائدات البلد لتحقيق رفاهية مستدامة للأجيال القادمة، لا مجرد معالجة آنية لأزمات الحاضر. إن الأسباب الرئيسة التي تحول دون إنشاء هذا الصندوق تتوزع بين السيادية والإدارية والاقتصادية والمالية، إلى جانب تحديات قانونية وتشريعية تتمثل بعدم وجود تشريع خاص لإنشاء صندوق سيادي، فضلًا عن أن الصناديق الموجودة حاليًا (مثل صندوق التقاعد والتنمية) مقومة بالدينار العراقي ولا تستطيع الدخول في استثمارات دولية كبيرة. فلو تم إنشاء صندوق سيادي عراقي مقومٍ بالدولار، أو بسلة من العملات، فسيتحقق استقرار مالي طويل الأمد، ويقل الاعتماد على النفط، كما سيدعم مشاريع تنموية في البنية التحتية والتعليم والطاقة. العراق في أمسّ الحاجة اليوم إلى صندوق ثروة سيادية، ليس كأداة مالية فحسب، بل كمشروع وطني ستراتيجي يعيد رسم ملامح المستقبل الاقتصادي للبلد. من الأسباب الموجبة لإنشاء هذا الصندوق، أولًا، لتقليل الاعتماد على صادرات النفط لتمويل الموازنة، وبالتالي الحد من تأثير تقلبات الأسعار في الأسواق العالمية، كما أن وجود صندوق سيادي يمكن أن يوفّر عوائد مستقرة من استثمارات متنوعة ويمنح الدولة "شبكة أمان"، تدفع تداعيات الهبوط الحاد بأسعار النفط، أو أي اضطراب آخر، بعيدًا عن العراق من أن يكون في وضع هش، كما يوفر تمويلًا عند الحاجة، ولتمويل التنمية المستدامة، إذ سيوفر فرصة أن يستثمر في البنية التحتية والتعليم والصحة، وتوفير فرص عمل حقيقية خارج القطاع العام، ولخلق أفق اقتصادي للأجيال القادمة. الصندوق سيمنع استنزاف الموارد الحالية في إنفاق قصير الأجل، بل يؤسس لمبدأ "ثروة العراق لكل العراقيين، اليوم وغدًا." صندوق الثروة السيادية هو ما قد يُحدث الفرق بين "بلد غني بموارده وفقير في استثماره"، وبين "دولة تستخدم ثروتها لبناء مستقبلها." المسألة اليوم لم تعد خيارًا اقتصاديًا فقط، بل اختبارًا لإرادة الإصلاح وبوصلة الطموح.