100%
مهدي طالب*
عندما نجح المخترع الأسكتلندي (جون لوجي بيرد) عام 1924 في نقل أول صورة متحركة عبر جهازه التلفزيوني الميكانيكي، لم يكن يتوقع أن اختراعه سيتحول بعد قرن من الزمن إلى نافذة سينمائية متقدمة متحررة من حدود الزمان والمكان.
كان ما أنجزه بيرد آنذاك طفرة تقنية خيالية؛ وجه بشري باهت ظهر عبر شعاع ضوء متقطع، لكن العالم تلقّاه بدهشة كبرى باعتباره بداية عهد جديد من التواصل الاجتماعي.
خلال العقود التالية تطور التلفزيون من جهاز ميكانيكي إلى نظام إلكتروني معقد، وأصبح جزءًا أساسيًا من الحياة اليومية. من الأبيض والأسود إلى الألوان، ومن البث الأرضي إلى القنوات الفضائية، بقي التلفزيون محتفظًا بمكانته، بوصفه المصدر الأهم للأخبار، والترفيه، والتفاعل الاجتماعي.
لكن في العقدين الأخيرين، ومع الطفرة الرقمية، تغيّر كل شيء؛ لم يعد التلفزيون كما كان، فذلك الجهاز الذي كان يحتل مكانه في الزاوية المضيئة من غرفة المعيشة ويُشغّل في أوقات محددة لمتابعة برامج بعينها، قد تحوّل إلى منصة عرض متقدمة تُشبه في تقنياتها وأهدافها كبرى شاشات السينما. فبفضل الثورة التقنية تخلّى التلفزيون عن الكثير من أدواته القديمة، فقد أسدل الستارعلى الراية البيضاء، وهدأ الصراع بين فضة المعداوي ومفيد أبو الغار، غادرت الأماني الضالة، وتوقف نزاع عائلة الجرخجي، بينما رحل (النسر وعيون المدينة)، وذهب الثأر بين إسماعيل چلبي وعبد القادر بيك أدراج الرياح، أغلق (حمام الهنا)، ولم نعد نسمع قبقاب غوار الطوشي، توقفت رحلة البحث عن (نادية)، انتهت (رحلة أبو العلا البشري)، ومات (سي السيد) في (بين القصرين)، ولم تبق ليالٍ في الحلمية تجمعنا كما كانت..
فقد ارتدى صاحبهم (التلفزيون) حُلّة جديدة جعلته جهازًا مختلفًا، لا في شكله فقط، بل في جوهره وأثره الثقافي كذلك.
شاشة ذكية
لم يعد التلفزيون ذلك الجهاز الذي يبث برامج محددة في أوقات محددة، أصبحت الشاشة الذكية وسيلة اتصال متعددة الوظائف، تقارب في أدائها ومخرجاتها ما اعتدنا عليه في السينما: تقنيات مثل4k، HDR،8k، الصوت المحيطي، وخدمات البث الرقمي، مثل ( نتفليكس، شاهد، Apple TV ,HBO) وغيرها، قدّمت محتوى بجودة سينمائية متكاملة مدعومة بإمكانات تحكم شخصية كاملة التوقف، والإعادة، والترجمة، والتوصية، وغيرها.
إن المسلسلات التي تُعرض الآن، عبر تلك المنصات للبث الرقمي، هي أعمال ذات جودة إنتاج سينمائية من حيث التصوير، والإخراج، والمؤثرات البصرية والصوتية، وحتى المتن الحكائي وبنية السرد. بل إن كثيرًا منها يُكتب كأفلام طويلة مقسّمة إلى حلقات، وليس كمسلسلات تلفزيونية تقليدية. وهنا يصبح من المنطق أن نطرح سؤالًا جوهريًا: هل أن ما نتابعه على التلفزيون اليوم ينتمي إلى التلفزيون بالفعل؟ أم أنه سينما في ثوب جديد؟
رواسب الماضي
مع هذا التحول، بدأ التلفزيون يفقد شيئًا فشيئًا أدواته التقليدية: البرامج المباشرة، والتفاعل الفوري، والبث الإخباري المتزامن، وحتى الإعلانات بصيغتها الكلاسيكية.. لم تعد هذه الأدوات هي القلب النابض للتلفزيون، بل أصبحت من رواسب الماضي، تحضر أحيانًا في شكل محدود، لكنها لم تعد تحكم التجربة.
التحول التقني، الذي قرّب التلفزيون من السينما، غيّر أيضًا علاقة المشاهد بالمحتوى، لم يعد ينتظر، بل يختار. لم يعد يتابع ما يُبث، بل باحث عمّا يريده عبر خوارزميات ذكية تتعلّم من سلوكه وتقدّم له مقترحات مخصصة. هذه الفردانية في المشاهدة دمّرت إلى حد كبير طابع التجمع العائلي، أو المجتمعي، حول الشاشة، الذي كان سمة التلفزيون الكلاسيكي. لكن ما هو مستقبل التلفزيون في ظل صعود الذكاء الاصطناعي؟
أسئلة اخلاقية
التلفزيون المقبل قد لن يكون مجرد شاشة، بل منصة تفاعلية ذكية قادرة على إنتاج محتوى مخصص تلقائيًا لكل مشاهد؛ قد يولد المحتوى بناءً على اهتماماتك اليومية، حالتك النفسية، أو حتى جدول أعمالك، خوارزميات الذكاء الاصطناعي يمكن أن تعيد مونتاج المسلسلات، تغيير نهاياتها، أو بناء شخصيات افتراضية تشبهك أو تتفاعل معك!
ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد، البرامج الإخبارية الذكية قد تُدار من مذيعين افتراضيين يتمتعون بقدرات تحليل بيانات لحظية، وتقديم محتوى حيّ مدعوم بصور مرئية مولّدة آنيًا، وحتى البرامج الترفيهية قد تُصمم خصيصًا لتناسب مزاجك اللحظي عبر تحليل تعبيرات وجهك أو صوتك عبر الكاميرا.
هذا المستقبل، بالرغم من إثارته، يطرح أيضًا أسئلة أخلاقية وثقافية:
هل سيبقى الإنسان متحكمًا في تجربته الإعلامية؟ أم سيتحول إلى متلقٍ لمحتوى تصنعه خوارزميات لا يفهم آلياتها؟ هل ستبقى هناك هوية جماعية للمشاهدة؟ أم سنعيش في فقاعات إعلامية فردية كلٌّ في عالمه الخاص؟
كانت صورة مشوشة بالأبيض والأسود، هذا ما بدأه بيرد في عشرينيات القرن الماضي، وتطوّر ليصبح تلفزيونًا عالميًا في القرن العشرين، لكنه الآن يُعاد تشكيله جذريًا بفعل الذكاء الاصطناعي.
لم يمت التلفزيون، لكنه تغيّر، وسيتغيّر أكثر، وسيظل يتحدى ذاته، بين أن يكون سينما منزلية فاخرة أو مساحة تفاعل ذكي، أو شيئًا ثالثًا لم نتصوره بعد، فالرحلة من بيرد إلى الذكاء الاصطناعي لم تنتهِ بعد بل إنها بالكاد بدأت.