100%
وسام مريدي
على امتداد الطريق الرابط بين النجف الأشرف وكربلاء، تنتصبُ أعمدة الإنارة الحديديَّة كرموزٍ صامدة تجمع بين الوضوح والإلهام. هذه الأعمدة التي يبلغ عددها 1452 عمودًا ، تفصلُ بينها مسافة 50 مترًا فقط، لم تعد مجرد حوامل لأسلاك الكهرباء، بل أصبحت علاماتٍ مضيئة تحملُ في أرقامها دلالاتٍ روحيَّة وإنسانيَّة عميقة. إنها خريطة رقميَّة على أرض الواقع، تهدي ملايين الزائرين الذين يمشون سيرًا على الأقدام في رحلة الأربعين، لتكون مرشدهم الأمين وسط الطوفان البشري.
مبادرة عالمية
بدأت فكرة ترقيم هذه الأعمدة، التي يزيد عددها على 1400 عمود، في العام 2009، كمبادرة تطوعيَّة انطلقت من مجموعة من الناس البسطاء، الذين أرادوا أنْ يسهّلوا على الزائرين معرفة مواقعهم بدقة أثناء رحلتهم سيرًا على الأقدام نحو قبلة الأحرار، ضريح الإمام الحسين (عليه السلام). ولم يكن يخطر ببال هؤلاء المتطوعين أنْ تتحول مبادرتهم المتواضعة إلى واحدة من أوسع المبادرات التطوعية انتشارًا في العالم، وفق ما أكده عدد من المسؤولين والمراقبين، نظرًا لضخامتها وتأثيرها التنظيمي والخدمي.
رقم افتتاحي
أول هذه الأعمدة يقع على مفرق الحولي الأول في النجف، إذ يحمل العمود رقم (1) الرقم الافتتاحي لسلسلة الأرقام التي تمتدُّ حتى موكب العتبة العباسيَّة المقدسة عند العمود رقم 1452. على طول هذا الطريق، تقفُ المراكز الطبيَّة ومخيمات المبيت ومواكب الخدمة التي تقدم الطعام والشراب، وأماكن الراحة، وبعضها يحمل أسماء مراكز مهمَّة مثل مستشفى المناذرة عند العمود 90، أو سيطرة مفرق الكفل عند العمود 350، أو مركز إرشاد المستبصرين عند العمود 741.
كل ثلاثة كيلومترات تقريبًا، يوجد مركز خاص للتبليغ عن المفقودين، إشارة واضحة على الاهتمام الكبير بتوفير الأمان والرعاية للزائرين الذين يسيرون لأداء زيارة الأربعين. وتشير الأرقام إلى أنَّ هناك العديد من المواقع ذات الطابع الروحي والخدمي، مثل:
* موكب ريحانة المصطفى عند العمود السادس.
* سيطرة نجف – كربلاء عند العمود 70.
* مستشفى المناذرة عند العمود 90.
* مفرق الحولي لمطار النجف عند العمود 107.
* حسينية أحباب الحسين عند العمود 134.
* موكب وحسينية شباب الحسين عند العمود 160.
* حسينية جابر الأنصاري عند العمود 163.
وتتواصل القائمة لتشمل مخيماتٍ للمبيت، وحسينيات تقدم المأكل والشراب، ومراكز إرشاديَّة، وحتى موكب العتبة العباسيَّة المقدسة عند العمود رقم 1452.
رحلة يسيرة
يقول المهندس يوسف الفرطوسي (أبو علي) أحد خدام مواكب الزائرين إنَّ "هذا الترقيم ساعدني كثيرًا في زيارة العام الماضي بتنظيم خطواتي، ولاسيما في طريق (مشّاية) الأربعين الطويل، حيث كنت ألتقي بأصدقائي عند أرقامٍ معينة من الأعمدة، وهذا جعل الرحلة أيسر وأكثر أمانًا."
أما فاطمة التميمي، زائرة من البصرة، فقالت: "مع كل عمود، كنت أشعر وكأنَّني أقتربُ من روح الحسين (ع) أكثر، هذه الإشارات ليست مجرد أرقامٍ، بل هي علاماتٌ على طريق العشق والوفاء. وأيضًا، وجود مراكز التبليغ والراحة بين الأعمدة يعطينا طمأنينة خلال الرحلة."
ويؤكد أحمد حسين، متطوعٌ في أحد المواكب الحسينيَّة: "الترقيم جعل التنسيق بين المواكب أسهل بكثير، فقد أصبح بإمكاننا تحديد مواقعنا بدقة لتقديم الخدمات للزوار بشكلٍ أسرع وأدق."
مضيف العتبة العبّاسية
يُعدُّ مضيفُ العتبة العبّاسية المقدّسة الخارجيّ، الذي يقع مقابل العمود رقم (1102)، من العلامات الدالّة التي تقع على أعمدة الإنارة في طريق (يا حسين)، الرابط بين محافظتي النجف وكربلاء المقدستين. وأصبحت هذه المحطّة الخدميّة، التي تستظلّ برايةٍ كبيرةٍ رُفِعت في باحتها الوسطيّة وخُطّ عليها (يا قمر بني هاشم)، مقصداً لغالبية الزائرين ومحطّ راحتهم وسكينتهم، فتزوّدهم بمختلف الخدمات التثقيفيّة والدينيّة والطبّية والإطعام والمبيت وغيرها.
المُشرِفُ على المضيف، عضو مجلس إدارة العتبة العبّاسية المقدّسة، الأستاذ جواد الحسناوي، بيّن أنّ "المضيف افتُتِح في العام (2008) وكانت بدايته بسيطةً، لتتوالى أعمال تطويره ويصل إلى ما وصل إليه الآن، ولله الحمد، وببركات أبي الفضل العبّاس (عليه السلام) أصبح يقدّم خدماته طيلة مناسبات السنة، لكنْ في زيارة الأربعين هناك خصوصيّة، إذ نبدأ بتقديمها منذ الأيّام الأولى لقدوم الزائرين."
وأضاف أنَّ "الخدماتُ خلال زيارة الأربعين تكون على محورَيْن، الأوّل خدمات تُقدَّم خارجه، وتشمل محطّات الاستفتاء ومراكز التائهين ومحطّات فكريّة وثقافيّة، ومراكز للتعريف بالأطفال وأخرى لتوزيع المأكولات السريعة والفواكه والعصائر والمشروبات، وهذا مخصّصٌ للسابلة المارّين على هذا الطريق، أمّا المحور الثاني فيشمل خدمات المأكل بثلاث وجبات والمبيت والراحة وأداء الصلاة والوضوء وخدمات صحّية وطبّية."
وبيّن الحسناوي أنّ "المضيف مقسومٌ إلى جزءين: واحد للرجال وآخر للنساء، ويُدار من قِبل كادرٍ متخصّص في تقديم الخدمات، وكلّ حسب تخصّصه، فضلًا عن مجموعةٍ من المتطوّعين من داخل كربلاء وخارجها، وزوّد المضيف بجميع المستلزمات الضروريّة للخدمة، وبأحدث المعدّات التي يجري تطويرها وتحديثها عاماً بعد آخر."
حماة الطريق
على الرغم من كونها أعمدة حديديَّة نُصبت على مدى عقودٍ لغرض إنارة الطريق وتوزيع الطاقة الكهربائيَّة، إلا أنَّ المتطوعين على طريق بغداد - كربلاء أسبغوا عليها دلالاتٍ جديدة. ففي كل عام، ومع بدء موسم العشق الحسيني، تُعلّق صور الشهداء على هذه الأعمدة، وتتدلى منها الرايات السود والحمر والخضر، وتحملُ شعارات الولاء والتضحية، لتصبح وكأنها (جدار الزمن العراقي) الذي يخلّد وجوه الذين سقطوا دفاعًا عن الوطن بمواجهة عصابات داعش الإجرامية.
تقول الحاجة آمال (أم كاتيا)، إحدى منظمي مواكب الزائرين في منطقة كويريش الصناعية في بغداد: "كل عمود من هذه الأعمدة أصبح شاهدًا على طريق الحسين، وعلى تضحية أبنائنا الذين قاتلوا عصابات داعش الإرهابيَّة.. نحن نزيّنها بصور الشهداء لأنهم يمثلون امتدادًا لمعركة الطف، ولأنَّنا نريد لكل زائر أنْ يرى من هم الذين حموا هذا الطريق."
رموز تنظيميَّة وروحيَّة
يُطلقُ على هذه الدلالة العميقة بين الزائرين اسم (العمود)، إذ يحمل كل واحد منها رقمًا واضحًا يُكتب عليه باللون الأسود أو الأحمر، ويستخدمه الزوار كنقطة دلالة دقيقة. تقول الزائرة أم نور من منطقة الدورة: "نحن نحدد المكان الذي سنرتاح فيه أو نلتقي عنده حسب الرقم، نقول مثلًا عند العمود 300، وهذا مهم جدًا لأنَّ عددَ الزوار كبيرٌ جدًا، والأعمدة تسهّل علينا الطريق."
في هذا السياق، تحولت الأرقام من مجرد ترتيبٍ فني إلى لغة خاصة، يتحدث بها ملايين الزوار من دون تنسيقٍ مسبق، وكأنها نظام GPS شعبي فطري يعمل بلا كهرباء ولا شبكة، ويقوده القلب.
على طول هذه الأعمدة، تتوزع المواكب الحسينيَّة التي تقدّم الخدمات من طعام وشراب وراحة للزائرين. وفي كثير من الأحيان، يُطلق على الموكب اسم (موكب عمود رقم كذا)، ليصبح العمود هو العنوان، والوجهة، والدلالة.
الشابة زينب عبد المهدي تقول: "أكثر ما يشدني في الطريق إلى كربلاء هو الصور التي تزيّن الأعمدة، إنها تذكّرنا بأنَّنا نكمل درب الشهداء، وبأنَّ هذه الأرض لم تُحرر بالكلمات، بل بالدم."