إعداد وترجمة: أحمد المولى /
في عالم اليوم، الذي يتسارع فيه الحديث عن ثورات تقنية كالذكاء الاصطناعي، قد يفاجأ الكثيرون بأن أحد أبرز المؤثرين في هذا المجال لم يكن عالم حاسوب، بل فيزيائيّ نظريّ حائز على جائزة نوبل، يُعرف بفكاهته وشخصيته الفريدة، إنه ريتشارد فاينمان. على الرغم من شهرته الكبيرة في مجال الكهروديناميكا الكمومية ومساهماته في مشروع مانهاتن النووي، إلا أن رؤاه وطروحاته كان لها تأثير عميق غير مباشر على الذكاء الاصطناعي، خاصةً من خلال عمله الرائد في مجال الحوسبة الكمومية. ولادة الحوسبة الكمومية تعني الحوسبة الكمومية كيف تحاكي الطبيعة نفسها لإنشاء ذكاء خارق. يُنسب إلى فاينمان -بشكل واسع- وضع الحجر الأساس لمفهوم الكمبيوتر الكمومي. في عام 1981. خلال مؤتمر حول الفيزياء والحوسبة، طرح فاينمان سؤالًا جوهريًا: كيف يمكننا محاكاة أنظمة ميكانيكا الكم المعقدة باستخدام أجهزة كمبيوتر كلاسيكية؟ وأشار إلى أن محاكاة ظواهر الكم تتطلب موارد حاسوبية هائلة لدرجة أنها تصبح مستحيلة عمليًا مع زيادة تعقيد النظام. كان حَلّه المقترح ثوريًا: "لنجعل الكمبيوتر يقوم بعمل الطبيعة." بمعنى آخر، إذا كانت الطبيعة تعمل وفقًا لمبادئ ميكانيكا الكم، فلماذا لا نبني أجهزة كمبيوتر تستفيد هي نفسها من هذه المبادئ؟ هذه الفكرة كانت بمثابة الشرارة الأولى لولادة مجال الحوسبة الكمومية، إذ اقترح فاينمان بناء أجهزة كمبيوتر تعمل على مبادئ التراكب الكمومي والتشابك، لتكون قادرة على حل مشكلات مستعصية على أجهزة الكمبيوتر الكلاسيكية، خصوصًا تلك المتعلقة بمحاكاة سلوك الجزيئات والمواد على المستوى الكمومي. هذا المفهوم هو اليوم حجر الزاوية في الذكاء الاصطناعي الكمومي (Quantum AI)، الذي يعد بالقدرة على معالجة البيانات المعقدة بشكل لم يسبق له مثيل، ما قد يفتح آفاقًا جديدة في التعرف على الأنماط وتحسين الخوارزميات، وتطوير نماذج التعلم العميق التي تتجاوز قدرات الذكاء الاصطناعي الحالي. الشبكات والتعلم الآلي لم يكن فاينمان عالمًا في الذكاء الاصطناعي بالمعنى الأكاديمي المباشر، لكن رؤاه كان لها تأثير عميق غير مباشر على هذا المجال، فقد كان مهتمًا بالشبكات العصبية والتعلم الآلي في الثمانينيات، وهو الوقت الذي بدأت فيه هذه الشبكات بالظهور كنهج واعد للذكاء الاصطناعي. يعكس هذا الاهتمام بصيرته في الطرق التي يمكن للحواسيب أن "تفكر" أو "تتعلم"، وكيف يمكن أن تستلهم من الأنظمة البيولوجية. إضافة إلى أن رؤية فاينمان، التي تشدد على فهم كيفية عمل الطبيعة واستخدام هذه المبادئ في التصميم، هي مبدأ أساسي في العديد من مجالات الذكاء الاصطناعي اليوم، فالعديد من خوارزميات التعلم الآلي والشبكات العصبية مستوحاة من البيولوجيا وعلم الأعصاب، أي من العلوم الطبيعية. منهجية حل المشكلات أسلوب فاينمان في التفكير والتعلم، الذي يُعرف الآن بـ(تقنية فاينمان للتعلم)، يعكس منهجيته في تبسيط المفاهيم المعقدة. وتستخدم بعض تطبيقات الذكاء الاصطناعي التعليمية هذه المنهجية لمساعدة المستخدمين على فهم المعلومات بشكل أفضل، ما يُظهر كيف يمكن لمنهجيته أن تندمج في أدوات تعتمد على الذكاء الاصطناعي. ويعكس ذلك كيف أن أسلوب فاينمان في التفكير والتعلم يمكن أن يُطبق حتى في أدوات تعتمد على الذكاء الاصطناعي. يُعدّ بيل غيتس من أشد المعجبين بفاينمان وبكتابه (أنت تمزح سيد فاينمان). من أبرز ما قاله عنه: "كانت لديه متعة واضحة في المعرفة، ويجعل الأمر واضحًا جدًا بحيث يستطيع أي شخص أن يفهمه." ويصفه بأنه "أفضل معلم لم أحظ به قط." أمّا مجلة (ساينس دايجست Science Digest) العلمية الأميركية فقالت عن الكتاب: "أحد أشهر الكتب العلمية في عصرنا، هذا الكتاب الظاهرة هو الأكثر مبيعًا في البلاد، مفعم بالطاقة والحكايات الطريفة، يكاد يجعلك تريد أن تصبح فيزيائياً." انعكست شخصية فاينمان الطريفة في كتاباته، ففيها من الطرافة والفكاهة ما يجعل أي قارئ يبتسم، مع أن الكاتب يتناول موضوعًا علميًا جافًا، يجعل فاينمان من العلم مجموعة حكايات مُسليّة. بينما يتسابق العلماء اليوم لتطوير أول أجهزة الكمبيوتر الكمومية العاملة، وإنتاج مواد نانوية ذات خصائص غير مسبوقة، يبقى إرث ريتشارد فاينمان حاضرًا بقوة، شاهدًا على عبقرية رجل رأى المستقبل بوضوح مذهل، ووضع بذرة لثورات علمية ما زلنا نشهد تفتحها وتأثيرها المتزايد على الذكاء الاصطناعي والعالم من حولنا.