100%
زياد جسام
في كتابه الجديد (جدار العين والعقل – ذاكرة اللوحة التشكيلية)، الصادر عن دار السامر للترجمة والطباعة، يقدم الناقد العراقي جاسم عاصي تجربة فريدة تتجاوز تقاليد الكتابة النقدية في الفن التشكيلي، متمعنًا في جدل العلاقة بين البصر والفكر، بين الصورة والحس، بين الإنسان والمكان، عبر تمثلات اللوحة وذاكرتها.
يقع الكتاب في نحو 350 صفحة، ويتوزع بين تأملات فكرية في علاقة الانسان بالجدار كأصل للتدوين البصري، ودراسات نقدية معمقة عن تجارب 39 فنانًا تشكيليًا عراقيًا من أجيال مختلفة، من الرواد إلى المعاصرين، من بينهم جواد سليم، وفائق حسن، وإبراهيم العبدلي، وسهيل الهنداوي.
ثنائية فاعلة
يبدأ الكتاب بـ (استهلال) يستدعي فيه المؤلف المفكر الفرنسي موريس ميرلو- بونتي، ليبني عليه تصورًا فلسفيًا يربط بين (العين والعقل)، بوصفهما ثنائية فاعلة في إنتاج المعنى الجمالي من خلال مواجهة الواقع وتأملاته. يرى عاصي أن الجدار هو أول لوح بصري اختاره الإنسان لكتابة رؤاه عن العالم، حين بدأ يدون أولى إشاراته ورموزه داخل الكهوف. لم يكن ذلك التدوين فعلًا زخرفيًا أو عبثيًا، بل استجابة معرفية مركبة قادها العقل المدفوع بالبصر نحو إنشاء سجل مرئي للوجود، يزاوج بين الحماية والتأمل، بين التحذير والجمال، بين العيش والفن.
مرآة متبادلة
يكتب عاصي: "فالعين لم تعد وسيلة للرؤية فحسب، بل أصبحت أداة فحص، بفعل العقل. ومن هذا التفاعل، ولد الاختيار، الذي قاد بدوره إلى الجمالي، إلى تزيين الوجود، إلى التدوين على الجدار."
بهذا التأسيس، يعيد عاصي النظر في مفهوم الجدار، لا كعنصر معماري صامت، بل ككيان حي يتلقى، ويراكم، ويشير بأنه (ذاكرة اللوحة)، كما يقترح عنوان الكتاب، ويصبح كل جدار – كما يرى المؤلف – سطحًا معرفيًا ووجدانيًا يمارس عليه الإنسان شغفه بالتعبير والاستذكار والتوثيق.
إرادة التغيير
في الموضوع ما بعد الاستهلال (العلاقات العامة والخاصة)، يتوسع عاصي في تحليل العلاقة بين الإنسان والمكان، بوصفها علاقة متعددة الطبقات: قد تكون علاقة وجودية قسرية، أو فعلًا مقصودًا واعيًا، أو مزيجًا بين الاثنين. المكان في هذا التصور ليس ظرفًا صامتًا، بل شريك في المعنى، يتأثر بالإنسان ويؤثر فيه، وهو ما يستدعي (عقدًا) من الألفة والمصالحة، كما يقول عاصي.
يكتب: "المكان من دون الإنسان يغلفه السكون، وتعايشه عناصر الاندثار... لكن بتدخل الانسان، يصبح مكانًا ذا وظيفة جمالية ومعرفية."
ومن الجدار إلى البيت، إلى العمارة، إلى الساحة، إلى جدران المدن، تتحول العلامات البصرية إلى شواهد على فعل الإنسان في صياغة المحيط، وعلى إرادة التغيير والجمال التي يحملها.
مضامين الجدار
يمتد القسم الثاني من الكتاب إلى دراسات نقدية تحت عنوان متكرر: (جدار الفنان فلان)، حيث يعرض المؤلف مختارات من أعمال 39 فنانًا تشكيليًا عراقيًا، موزعة بين المدارس والأساليب والأزمنة، مرفقة بقراءة نقدية معمقة لكل فنان ولوحاته المختارة.
لا يتعامل جاسم عاصي مع الجدار هنا بوصفه مجرد خلفية تشكيلية، بل كـامتداد لثنائية العين والعقل، لمفهوم الذاكرة الجمعية والبصرية. فهو يفكك العلامات، ويعيدها في سياقاتها الثقافية والفكرية، ويستكشف المضمون الإنساني الكامن خلف الشكل.
تدوين بصري
ما يلفت في هذه الدراسات هو الاهتمام بالبنية النفسية والرمزية للعمل الفني، دون الوقوع في غواية التوصيف السطحي. كما أنه يحتفظ بنبرة تحاورية بين القارئ والنص، تُشعر المتلقي بأن العمل الفني ليس موضوعًا بعيدًا، بل جزء من سردية المكان والذات.
يمكن اعتبار هذا الكتاب مشروعًا مزدوجًا: من جهة، هو تنظير بصري وفلسفي لعلاقة الإنسان بالجدار بوصفه مخزونًا حسيًا، ومن جهة أخرى، هو أرشفة ذكية لتجارب فنية عراقية متباينة، تشتغل على الرؤية والمكان والرمز والهوية.
(جدار العين والعقل) ليس فقط كتابًا عن الفن، بل "عن الإنسان في مواجهة المكان، عن التدوين البصري كفعل حضاري، عن الجدار الذي يتكلم متى ما رسمت عليه الرؤى، وصيغ عليه الحنين".