100%
حليم سلمان
يشهد العالم تحوّلًا جذريًا في بنية "سوق العمل"، بفعل التطوّر السريع للتقنيات والرقمنة، وفي مقدمتها الذكاء الاصطناعي، هذا التحوّل ليس مجرد تحديث تقني، بل ثورة صناعية تعيد تشكيل طبيعة الوظائف، وأنماط الإنتاج، والمهارات المطلوبة للنجاح المهني.
أكثر ما يثير الانتباه، أن الذكاء الاصطناعي صار ينجز مهام كانت محصورة بالإنسان، كتحليل البيانات، وتشخيص الأمراض، وخدمة العملاء، وإدارة سلاسل الإمداد.
الأمر الذي انعكس تدريجيًا على تراجع بعض الوظائف الروتينية والمتكررة، مثل إدخال البيانات والمهام الإدارية البسيطة، أو اختفائها كليًا، وبالموازاة من ذلك، يفتح الذكاء الاصطناعي آفاقًا مهنية جديدة تتطلّب مهارات متقدمة، منها، تطوير الأنظمة الذكية، وتأمين البنى السيبرانية، وإدارة البيانات الضخمة، وصياغة الخوارزميات.
تطل في الأفق أيضًا فرص واسعة في قطاع الاقتصاد الرقمي، حيث يرتفع الطلب على مختصين يتقنون التعلم الآلي، والروبوتات، وإنترنت الأشياء. علاوة على ذلك، ستدخل تقنيات الذكاء بقوة في الصناعات التقليدية، كالزراعة والصناعات التحويلية، ما سيؤدي إلى قفزات إنتاجية، ويولّد حاجة كبيرة لكوادر تجمع بين الخبرة القطاعية والمعرفة التقنية.
وبرغم التطور المتسارع في الأتمتة، يبقى العنصر البشري جوهريًا في المجالات التي تتطلب الإبداع والتفكير، ومهارات التواصل الإنساني، ذلك أن أنظمة الذكاء الاصطناعي لا تستطيع محاكاة الحسّ الأخلاقي، والحسّ الثقافي، أو قدرة الإنسان على الابتكار، لذلك ستتسع الفرص أمام العاملين في التعليم المبتكر، والرعاية الصحية المتمحورة حول المريض، وأيضًا الصناعات الثقافية والإبداعية، ومهام استشراف المستقبل.
مع ذلك، فإن هذا التحوّل يثير تحديات حقيقية، فالأمر يتطلّب من المؤسسات والدول أن تستثمر في إعادة تأهيل القوى العاملة، عبر برامج تدريبية مستمرة تركز على المهارات الرقمية والقدرة على التكيّف، ويستلزم أيضًا تحديث السياسات التعليمية لمواكبة متطلبات سوق العمل، عبر إدماج مبادئ البرمجة، والتفكير الحاسوبي، والمهارات الرقمية للمراحل الدراسية المبكرة.
يمكن استشراف ملامح "سوق العمل" كمنظومة هجينة يتكامل فيها الإنسان والآلة، ذلك أن تتولى الأنظمة الذكية الأعمال الحسابية، بينما يركّز الإنسان على القيادة، والستراتيجية، والابتكار.
هذا التكامل يصل بنا إلى زيادة الإنتاجية وتحسين جودة الحياة، شرط أن يجري توجيهه ضمن رؤية وطنية وشمولية تراعي البعد الأخلاقي والاجتماعي للتحول الرقمي.
مستقبل العمل مع الذكاء الاصطناعي يقدم فرصًا واعدة بدلًا من المخاطر، إنه مشهد مليء بالإمكانيات لمن يملك المرونة والمعرفة.
الذكاء يعيد تعريف دور الإنسان ويوسع مساحات الإبداع والابتكار في عالم يتغيّر بوتيرة متسارعة.