عباس عبد الرحمن
لطالما كان الدولار الأميركي العملة الأكثر أمانًا وملاذًا رئيسًا للمستثمرين حول العالم. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتأسيس نظام (بريتون وودز)، احتكر الدولار موقعه كعملة الاحتياط الأولى عالميًا، مدعومًا بالقوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية للولايات المتحدة.
السنوات الأخيرة، وخاصة بعد سلسلة من الأزمات المالية، والتوترات الجيوسياسية، وسياسات التيسير الكمي والديون المتراكمة، بدأت تهز الثقة التاريخية بالدولار. وباتت عبارة "لا ثقة بالدولار الأميركي بعد اليوم" تتردد في الأوساط الاقتصادية والاستثمارية، إذ يسعى المستثمرون والأطراف الدولية إلى البحث عن بدائل وحلول تحوطية تحفظ ثرواتهم من تقلبات العملة الأميركية.
تضخم وديون أميركية تتحمل الولايات المتحدة عبئًا هائلًا من الديون يتجاوز 35 تريليون دولار، في وقت تتصاعد فيه معدلات الفائدة والتضخم. هذا الوضع يثير قلق المستثمرين من تراجع القدرة الفعلية للدولار على حفظ القيمة. فإذا كانت العملة المدعومة بأكبر اقتصاد عالمي تعاني من فقدان قوتها الشرائية، فكيف يمكن الاعتماد عليها كملاذ آمن طويل الأمد؟
تسييس النظام المالي العالمي العقوبات الأميركية على دول مثل روسيا وإيران وفنزويلا، واستخدام الدولار كسلاح جيوسياسي، دفعت العديد من الدول لإعادة التفكير في اعتمادها الكامل عليه. إذ يُنظر إلى الدولار اليوم ليس فقط كعملة، بل كأداة نفوذ سياسي يمكن أن تُستخدم لعزل أو معاقبة أي طرف.
صعود تكتلات اقتصادية دول (بريكس BRICS)، بقيادة الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، تروج بقوة لفكرة الاستغناء عن الدولار في التبادلات التجارية فيما بينها. إطلاق منصات دفع محلية بالعملات الوطنية، والنقاش حول "عملة بريكس" موحدة، يعكسان رغبة حقيقية في بناء نظام مالي بديل.
تراجع الثقة بالمؤسسات الأميركية الخلافات السياسية الداخلية، والانقسامات الحزبية، والجدل المتكرر حول سقف الدّين الأميركي، كلها عوامل زادت من مخاوف الأسواق العالمية بشأن الاستقرار الاقتصادي والسياسي للولايات المتحدة، وبالتالي لقوة الدولار.
التحوط لدى المستثمرين مع تزايد الشكوك، يلجأ المستثمرون إلى تنويع محافظهم، بعيدًا عن الاعتماد الكامل على الدولار. وحسب خبراء، فإن أبرز أشكال التحوط تشمل: 1 - الذهب والمعادن الثمينة: لا يزال الذهب هو الأداة التقليدية للتحوط ضد تقلبات العملات والتضخم. فقد ارتفع الطلب العالمي على الذهب بشكل ملحوظ، خاصة من البنوك المركزية في الصين وتركيا وروسيا، التي تزيد احتياطاتها منه كبديل للدولار. 2 - العملات الصعبة البديلة: اليورو والين والفرنك السويسري لا تزال تشكل خيارات أمام المستثمرين، رغم محدوديتها مقارنة بالدولار، لكن الأكثر إثارة للاهتمام هو صعود اليوان الصيني الذي يسعى تدريجيًا لاكتساب شرعية دولية عبر إدماجه في نظام المدفوعات العالمي. 3 - الأصول الرقمية: العملات المشفرة، وعلى رأسها البيتكوين، أصبحت جزءًا من ستراتيجية التحوط لدى بعض المستثمرين، خاصة في مواجهة التضخم وضعف الثقة بالعملات التقليدية، ورغم تقلبها العالي، فإنها تمثل وسيلة "خارج النظام التقليدي" لحماية الثروة. 4 - الأصول الحقيقية: الاستثمار في العقارات، والأراضي الزراعية، الطاقة، والموارد الطبيعية، أصبح يشكل بديلًا واقعيًا لحفظ القيمة، خاصة في أوقات تقلب الأسواق المالية.
تداعيات النظام المالي إن التحولات الجارية في مكانة الدولار الأميركي لا تنعكس على الولايات المتحدة وحدها، بل تمتد إلى النظام المالي العالمي بأسره. ويمكن تلخيص أبرز التداعيات المحتملة في النقاط التالية: 1 - تعدد مراكز القوة المالية: تراجع هيمنة الدولار لا يعني زواله كليًا، لكنه يفتح الباب أمام عالم "متعدد العملات"، حيث يتقاسم الدولار واليوان واليورو، وربما عملات إقليمية أخرى، الأدوار. 2 - تغييرات في التجارة العالمية: الاتفاقيات التجارية الجديدة التي تعتمد العملات المحلية (مثل اتفاقيات الصين مع السعودية أو روسيا) قد تؤدي إلى إعادة رسم خريطة التدفقات المالية والتجارية العالمية. 3 - إضعاف النفوذ الأميركي: فقدان الثقة بالدولار يقلل من قدرة الولايات المتحدة على تمويل عجزها بسهولة، وعلى استخدام الدولار كسلاح دبلوماسي، ما يحد من نفوذها السياسي. 4 - مخاطر انتقالية: التحول عن الدولار قد يتسبب بتقلبات حادة في الأسواق المالية، ويزيد من صعوبة إدارة السياسات النقدية والمالية في كثير من الدول النامية المرتبطة بالنظام المالي العالمي. تنويع مصادر القوة
المحصلة، الدولار الأميركي لن يختفي قريبًا، فهو ما زال يمثل أكثر من 55 % من احتياطيات النقد الأجنبي حول العالم، وما يقارب 88 % من حجم التداول في أسواق الصرف، لكن المؤكد أن مرحلة "الثقة المطلقة" به قد انتهت، والتحوط أصبح سلوكًا طبيعيًا لدى المستثمرين والأطراف الدولية، في ظل عالم يتجه نحو تنويع مصادر القوة المالية، بدلًا عن الارتهان لعملة واحدة. قد يكون المستقبل عالمًا متعدد الأقطاب ماليًا، كما هو سياسيًا، بحيث يلعب الدولار دورًا مهمًا، لكن دون احتكار، وبالنسبة للمستثمرين، فإن الرسالة الأهم هي، التنويع والتحوط لم يعد خيارًا، بل ضرورة ستراتيجية في مواجهة التحولات العميقة التي يشهدها النظام المالي العالمي.