100%
عبد المنعم الأعسم
يعتبر الأصمعي، أبو سعيد عبد الملك، أول من قرأ سيرة عنترة بن شداد في عالم الكتب، وكان معنيًا بدراسة المفردة البدوية وعالمها وإيقاعها. غير أن مداخلات أخرى أعطت أولوية سرد الحكاية إلى الطبيب والشاعر البغدادي أبي المؤيد بن الصائغ "العنتري" قبل الأصمعي بعقود. وفي كل الأحوال، فإنه باسم المؤرخين وضعت مفاتيح قراءة هذه السيرة، التي استرشدت بها أجيال القراء، وألهمت الشعراء والفنانين على إعادة قراءة وتركيب أحداث السيرة.
والحال، لا تنتسب سيرة "عنترة بن شداد" إلى الأنواع التقليدية للقصص الشعبية العربية المعروفة، فهي ليست فلسفية كما هي قصة "حي بن يقظان" لابن طفيل، ولا كتابًا في اللغة، كما هي مقامات الهمذاني والحريري، ولا سفرًا في الحِكم والأخلاق، كما هي كليلة ودمنة لابن المقفع، كما أنها لا تنتسب، مثل سواها، إلى المجتمع الحضري الوليد، ولا إلى المجتمع الانتقالي، وليست بابًا مفتوحًا إلى خارج هوية وانتماء وأحلام وأخلاق شخصياتها، أو على وجه التحديد، شخصيتها الوحيدة "عنترة"، التي تدور حولها وفيها الأحداث، وهي شخصية بدوية منقطعة، بكل ما في البداوة من قيم وملامح الانقطاع. إنها لدى بعض من المستشرقين "إلياذة العرب"، بالرغم مما يفارق بين المعشوقتين "عبلة" و "هيلانة" من دور سلبي "ينتظر" في الأولى، وإيجابي "يشارك" في الثانية، وليس بدون مغزى أن تعلق قصيدة ابن شداد "هل غادر الشعراء من متردمِ/ أم هل عرفت الدار بعد توهمِ" على أستار الكعبة بين أمهات القصائد العربية.
والحال، ينبغي أن نقرأ قصة عنترة بن شداد، لا باعتبارها من الأساطير، لأنها لم تهتم بأسئلة الكون التي تحيط بالأحداث، ولا تفيد في تهجي الملامح التاريخية والحضارية للجماعة التي تنتسب لهم السيرة، كما أنها ليست من الملاحم، لأنها ليست قصيدة مطولة من الشعر.. بل تُقرأ، في العادة، كقصة، أو سيرة من السير الشعبية الشفاهية، إذ جرى توليفها في مرحلة لاحقة من تاريخ حدوثها المفترض، عشية ظهور الإسلام، ثم صارت على كل لسان، وتوزعت نصوصها، مبكرًا، على ثلاثة أمصار، حجازية وشامية وعراقية، لكل من تلك المرويات "أو الطبعات" مذاقها وبيئتها البدوية، من دون ان تختلف السياقات أو بنى المفردة العربية المسجوعة.
ولا ينبغي أن تروى سيرة عنترة إلا بوصفها سيرة ابن منحدر عن أم جارية سوداء "زبيبة" ومن أب من أمراء بني عبس" شداد"، عاش آلام التمايز في التحدر واللون، وقد تركزت القصة على رسالة فصيحة قدّت من خامة المجتمع البدوي، ومن تجليات الالتباس في الانساب لتقول إن "المرء مهما كان لونه ونسبه، يمكن ان يصبح علمًا وقدوة." حيث نفخ ابن شداد في صورة الفروسية ما لا يعقل من الخوارق منذ أن كان في المهد. ففي عامه الأول (كما تفيد السيرة) صار "يهمهم ويدمدم إذا مُنع عنه الرضاع، ويقطع كل يوم قماطًا جديدًا، ولو كان من حديد."
وحين كبر راح يطارد الأسود والذئاب، فيقبض على أشداقها ويشقها أيما انشقاق.. وصار يثير الخوف في الاقران من الشريرين من أمثال "داجي". ومع إعجاب عنترة بابنة عمه عبلة، ووقوعه في حبها، ورغبته في الزواج منها، بدأت مأساته الطويلة، فقد ثار العم على تجاوز "العبد" حدود اللياقة واعتبارات اللون، ما دفع العاشق إلى دروب المغامرات، حتى حلت بالقبيلة هزيمة وسبي، وكانت عبلة من بين السبايا، فناشده أبوه وعمه إلى إنقاذ القوم، ووعداه بالانعتاق وبعبلة. غير أن العم، بعد نجاح عنترة، نكث، ثم عاد وحمّل العاشق شروطًا فوق طاقة البشر على تحقيقها، فلم يكن للعاشق بد لنيل مناه، من اجتراح المعجزات وخوض الحروب "فتنافرت الخيل وصهلت وبرزت الرجال واتصلت، وشرعت في القتال وتصادمت، وشربت الفرسان كؤوس الموت وتناهلت، ودام الضرب، وزاد الكرب واختلطت المواكب، واختلفت القواضب، وعزت المطالب، وبلّ العرق اللحى والشوارب، وطيّر الرؤوس من المناكب، ووقع الشجعان من على ظهور النجائب."
وفي تحولات هذه السيرة، نرحل الى بلاد فارس والشام والحبشة وديار الروم، حتى السودان والجزائر، وهي ميادين لمعارك عنترة من غير أن نأخذ معرفة ما عن هذه البلدان والأمصار.