علي كريم اذهيب
في ذاكرة العراقيين، ظل الذهب لعقود طوال (صندوق الأمان)، الذي يلجأون إليه في أوقات الأزمات. لم يكن مجرد معدن ثمين أو زينة تُرتدى في الأعراس والمناسبات، بل كان بمثابة حساب توفير عائلي، محفوظ في أدراج البيوت أو خزائن البنوك، يقي العائلة من تقلبات الدينار، ويمثل الضمانة الأخيرة إذا عصفت الأزمات بالاقتصاد.
غير أن المشهد - اليوم - يشهد تغيرًا واضحًا؛ فقد برز الدولار الأميركي، ومعه العملات الرقمية، مثل البيتكوين والإيثريوم، كوجهات جديدة يراها كثير من العراقيين أكثر جدوى، أو أسرع في التداول، حتى لو كانت أكثر مخاطرة. هذه التحولات لم تأتِ من فراغ، بل جاءت نتيجة لتراكم عوامل اقتصادية واجتماعية وثقافية أعادت رسم خريطة (الملاذات الآمنة) في العراق.
إرث الأمان التقليدي في أسواق بغداد القديمة، مثل شارع النهر وسوق الشورجة، وفي محال الصاغة بكربلاء المقدسة والنجف الأشرف، يمكن أن ترى مشهدًا تقليديًا يتكرر: نساء يتفحصن الأطقم الذهبية، ورجال يسألون عن (الليرة) أو (المشموم)، وأصوات الموازين المعدنية ترن مع كل عملية بيع أو شراء.
يقول أبو مصطفى، صائغ في الكاظمية المقدسة منذ أكثر من 30 عامًا، في حديث مع "الشبكة العراقية": "أيام الحصار في التسعينيات، كان الذهب ينقذ العائلات. الدينار فقد قيمته بسرعة، لكن الذهب بقي محتفظًا بقيمته، حتى لو تغير سعره."
الذهب بالنسبة للجيل الأكبر لم يكن خيارًا استثماريًا فحسب، بل ثقافة اجتماعية متوارثة، يُشترى ويُهدى في المناسبات، ويُخزن ليوم الحاجة. لكن بمرور الوقت، بدأت هذه القناعة تواجه تحديات من جيل جديد يعيش عصر التكنولوجيا والاتصال الفوري.
بورصة الذهب في ذات الوقت، أكد صاغة شارع النهر في بغداد، أن أسعار الذهب سجلت قفزات غير مسبوقة خلال أقل من عام واحد، إذ ارتفع سعر المثقال الواحد من نحو 400 ألف دينار إلى ما يقارب الـ 750 ألف دينار، وسط توقعات باستمرار موجة الصعود خلال الفترة المقبلة.
يقول أحد الصاغة، وهو محمود الفيلي، في حديث مع "الشبكة العراقية": "منذ سنوات طوال لم نشهد هذه الوتيرة السريعة في ارتفاع الأسعار، فالمثقال كان في منتصف العام الماضي عند حدود 400 ألف دينار، واليوم وصل إلى 750 ألفًا، وما تزال المؤشرات تميل إلى المزيد من الصعود."
ويعزو الفيلي هذا الارتفاع إلى تقلبات أسعار الذهب عالميًا، إلى جانب تراجع قيمة الدينار أمام الدولار، فضلًا عن إقبال المواطنين على الادخار بالمعدن النفيس كملاذ آمن في ظل الظروف الاقتصادية. وأشار إلى أن حركة البيع والشراء شهدت تغيرات ملحوظة، إذ يزداد الطلب على شراء السبائك الصغيرة والمصوغات الخفيفة، في حين يتراجع الإقبال على القطع الثقيلة نتيجة ارتفاع تكاليفها.
كما أوضح أن الأسعار في العراق تتأثر مباشرة بمتغيرات السوق العالمية، وأن أي ارتفاع عالمي ينعكس بشكل فوري تقريبًا على السوق المحلية، مؤكدًا أن "المواطن العراقي بات يراقب بورصة الذهب لحظة بلحظة، كما يراقب أسعار الدولار."
وتشير التقديرات إلى أن العراق من أكثر الدول التي تشهد طلبًا شعبيًا واسعًا على الذهب، لأغراض الادخار والزينة، وهو ما يعزز الحركة المستمرة في السوق، على الرغم من ارتفاع الأسعار.
سيد الملاذات بعد عام 2003، ومع انفتاح الأسواق وارتباط العراق بالاقتصاد العالمي، اكتسب الدولار الأميركي أهمية متزايدة. أصبح سعر صرفه في السوق الموازي مؤشرًا يوميًا يحدد قرارات البيع والشراء، ويؤثر في الأسعار داخل الأسواق المحلية.
يقول أحمد كريم، موظف حكومي من بغداد، لـ "الشبكة العراقية": "من زمان، إذا عندك فائض فلوس تشتري ذهب، لكن حاليًا الدولار أسهل في الشراء والبيع، وحتى الاحتفاظ به لا يحتاج جهدًا. تقدر أن تبيعه في أية لحظة وتستفيد من فرق السعر."
ومع تكرار الأزمات الاقتصادية وارتفاع معدلات التضخم، صار العراقيون أكثر ميلًا إلى تحويل مدخراتهم إلى الدولار، باعتباره أكثر استقرارًا، أو أقل تقلبًا، من الدينار. لكن حتى الدولار نفسه لم يعد بالنسبة لبعضهم نهاية المطاف.
عملات رقمية خلال السنوات الأخيرة، بدأنا نسمع أحاديث في المقاهي والدوائر، وحتى بين طلاب الجامعات، عن البيتكوين والإيثريوم، وعن أرباح سريعة يحققها بعضهم من تداول العملات الرقمية. الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي جعلت الوصول إلى هذه الأسواق العالمية أمرًا ممكنًا بضغطة زر.
حيدر، شاب في العشرينات من عمره، بدأ التداول بالعملات الرقمية منذ 2021، يقول: "ماكو مقارنة بين سرعة الربح هنا وبأي استثمار ثاني. اشتريت عملة صغيرة بـ 500 دولار، وبعتها بألف خلال أسبوع. طبعًا الخسارة هم سريعة، بس إذا تعرف شلون تتحرك، تكدر تربح."
لكن هذه السرعة التي تجذب الشباب، هي أيضًا مصدر الخطر الأكبر. العملات الرقمية شديدة التقلب، ويمكن أن تفقد نصف قيمتها في أيام، ما يجعلها أقرب إلى (مقامرة محسوبة) بالنسبة للكثيرين.
ثقافة عالية
يمكن تلخيص العوامل التي دفعت العراقيين للتنويع بين الذهب، والدولار، والعملات الرقمية، في أربعة محاور رئيسة: 1. تذبذب أسعار النفط: إذ إن العراق يعتمد على النفط كمصدر رئيس للعملة الصعبة، وأي انخفاض في أسعار النفط ينعكس فورًا على سعر الدينار ويؤثر على الثقة في المدخرات المحلية. 2. تضخم الأسعار: القوة الشرائية للدينار تراجعت خلال السنوات الأخيرة، ما جعل الاحتفاظ به أمرًا محفوفًا بالمخاطر. 3. انتشار الثقافة المالية الرقمية: جيل الشباب أصبح أكثر انفتاحًا على أدوات الاستثمار العالمية بفضل الإنترنت، ولم يعد مقيدًا بالخيارات المحلية التقليدية. 4. البحث عن السيولة والسرعة: بينما قد يتطلب بيع الذهب وقتًا وتفاوضًا، فإن بيع الدولار أو العملات الرقمية يمكن أن يتم خلال دقائق عبر تطبيقات أو محال الصرافة.
التحديات والمخاطر الخبير الاقتصادي علي حسن، خلال حديثه المقتضب مع "الشبكة العراقية"، يرى أن هذه التحولات طبيعية في ظل الانفتاح العالمي، لكنه يحذر من (الاندفاع العاطفي) نحو العملات الرقمية دون وعي بالمخاطر. مضيفًا: "الذهب أصل مادي ملموس، قيمته لا تنعدم، حتى لو انخفض سعره. الدولار أداة تبادل واستقرار نسبي. أما العملات الرقمية فهي أداة عالية المخاطرة، تحتاج إلى إدارة مالية دقيقة، وإلا قد تتحول الأرباح إلى خسائر كارثية."
كما أن السوق العراقية، بحسب حسن، تعاني من ضعف التشريعات المنظمة لتداول العملات الرقمية، ما يجعل المستثمر عرضة للاحتيال، أو القرارات الحكومية المفاجئة، التي قد تحظر أو تقيد هذا النوع من النشاط. تطور البنية المالية المؤشرات الحالية تدل على أن العراقيين لن يتخلوا عن الذهب تمامًا، ولن يعتمدوا كليًا على الدولار أو العملات الرقمية. ما يحدث هو نوع من التنويع في الملاذات، بحيث يحتفظ البعض بجزء من مدخراته على شكل ذهب، وجزء بالدولار، وربما نسبة صغيرة في العملات الرقمية، على أمل تحقيق أرباح سريعة.
ومع تطور البنية المالية والتكنولوجية في العراق، قد نرى أدوات جديدة للحفاظ على قيمة المدخرات، وربما أشكالًا أكثر أمانًا من (الدولار الرقمي)، أو العملات المستقرة (Stablecoins)، التي تحاول الجمع بين سرعة التكنولوجيا واستقرار الأصول التقليدية.
في النهاية، رحلة العراقي في البحث عن ملاذ آمن ليست مجرد قصة عن معدن لامع أو ورقة خضراء أو عملة افتراضية، بل هي انعكاس لثقافة اقتصادية تتطور تحت ضغط الأزمات وتحت تأثير العولمة. بين جيل يحتفظ بـ(الليرة في القاصة)، وجيل يراقب أسعار البيتكوين من هاتفه.
يستمر هذا البحث بحث لا ينتهي، ما دامت المخاطر قائمة، وما دامت الرغبة في الأمان هي المحرك الأساسي للمدخرات.