الخرف الرقمي.. مرض الأجيال القادمة

صفاء أنصاف لا يمرُّ يوم إلا ونسمع شكوى أمٍ أو أبٍ من تغيّر سلوك الأبناء بشكل تدريجي، وصولًا إلى انهيار سلوك بعضهم، حتى أنهم يهملون دراستهم أو علاقتهم بالأصدقاء، أو بالبيئة المحيطة بهم. هذا التغيّر الذي جاء مباشرةً بعد انتشار الموبايل الذكي، ودخول الإنترنت بشكل مباشر في حياتنا اليومية، بتفاصيلها الدقيقة والكبيرة كلّها. هذا التغيّر لم يمر من دون انتباه العلماء والباحثين، إن كانوا على مستوى علماء السلوك، أو النفس، أو الاجتماع، وصولًا إلى علماء الأعصاب، الذين بدأوا بدراسة تغيّرات الأعصاب وما يحدث لها بعد الإدمان على الموبايل والشاشات الرقمية بشكل ملحوظ. هذا الاختلال في السلوك هو ما أسموه بـ(الخرف الرقمي)، الذي يصف الاختلالات الإدراكية التي قد تنتج عن الإفراط في استخدام الأجهزة الرقمية، مثل الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية والساعات الذكية وأجهزة الكمبيوتر والتلفزيون. البداية العلمية لم يجرِ تداول مصطلح الخرف الرقمي قبل أن يطلقه عالم الأعصاب الألماني مانفريد سبيتزر، للمرة الأولى، مع نشر كتابه (الخرف الرقمي) في العام 2012. هذا الكتاب الذي أثار المخاوف بشأن الاعتماد المفرط على الأجهزة الرقمية وأجهزة الكمبيوتر، ما يؤثر سلبًا على الدماغ، ملخصًا فكرته بأننا نعلم أن التشتيت المستمر، والمعالجة السريعة للمعلومات، وتعدّد المهام المتواصل، التي تنطوي عليها عادة الاستخدام الرقمي المفرط، يمكن أن تؤدّي إلى مشكلات في الذاكرة، وصعوبات في الوظائف الإدراكية، وانخفاض مدى الانتباه، وهي السمات المميّزة للخرف الرقمي. وبملاحظة بسيطة، يحدّد العلماء أعراض الخرف الرقمي- على الرغم من أنه لا يمكن تشخيص هذه الحالة بدقة- مثل: وجود مشكلات في الذاكرة القصيرة المدى، ونسيان الأشياء، أو فقدانها بسهولة، أو الصعوبة في تذكّر الكلمات، أو في القيام بمهام متعدّدة، إذ يمكن أن يؤدّي وقت الشاشة الزائد أيضًا إلى النوم أو تغيّرات مزاجية متكررة، ما قد يؤثر بشكل كبير على وظائف المخ. أنشطة مستقرة لم يمر مصطلح (الخرف الرقمي) من دون أن تبدأ مؤسّسات علمية بالبحث فيه، ولاسيما مع التطورات التكنولوجية، وظهور الذكاء الاصطناعي، والأجهزة اللوحية المتطورة. وبحسب الباحثة فاطمة ياسر، فقد حلّلت دراسة نشرت في مجلة BMC Public Health Journal في العام 2023 العلاقة بين الأنشطة المستقرة القائمة على الشاشة، وخطر الإصابة بالخرف لدى 462.524 مشاركًا، ووجد الباحثون أن قضاء أكثر من 4 ساعات أمام الشاشات يوميًا يرتبط بزيادة خطر الإصابة بالخرف الوعائي ومرض الزهايمر والخرف الناجم عن هذه الأسباب كلها لدى المشاركين، وارتبطت زيادة الوقت اليومي أمام الشاشة أيضًا بالتغيرات الجسدية في مناطق معينة من الدماغ. في حين يحدد الدكتور ريشي سود أسباب الخرف الرقمي، كاشفًا أن هناك ثلاثة أسباب رئيسة تُسهم في تطوره، وهي: -1 الاعتماد المفرط على الأجهزة الرقمية: فهذا قد يؤدي إلى تراجع مهارات الذاكرة. على سبيل المثال، قد يواجه الأشخاص صعوبة في تذكّر أرقام الهواتف والعناوين أو غيرها من المعلومات لاعتمادهم على أجهزتهم لتخزين هذه البيانات. 2 - مدى الانتباه: تؤدي الإشعارات المستمرة وتعدد المهام التي تُشجعها الأجهزة الرقمية إلى قصر مدى الانتباه وصعوبة في الحفاظ على التركيز على مهمة واحدة. تحتوي الهواتف الذكية، في المتوسط، على 18 تطبيقًا مختلفًا، ويتلقى المستخدمون 46 إشعارًا في المتوسط يوميًا! - 3 انخفاض التحفيز الذهني: عندما يستخدم الأفراد الأجهزة الرقمية لحل المشكلات بسرعة، أو للعثور على المعلومات بسهولة، قد لا ينخرطون في العمليات المعرفية العميقة التي تُعزز مهارات حلّ المشكلات والتفكير النقدي. هذه الأسباب تؤدي - بالتالي- إلى اضطراب النوم، فالتعرض للضوء الأزرق من الشاشات قد يؤدي إلى اضطراب أنماط النوم من خلال التأثير على إنتاج الميلاتونين، وهو هرمون يُنظم النوم. ويرتبط ضعف جودة النوم باضطرابات إدراكية مُختلفة. يضيف سود: بصفتي طبيب أطفال وطبيبًا نفسيًا معتمدًا، أشعر بالقلق إزاء الإفراط في استخدام التكنولوجيا، وكيف يُمكن أن يؤثّر ذلك على وظائف الدماغ. يكشف عدد متزايد من الأبحاث عن بعض الروابط المزعجة بين الإفراط في استخدام الوسائط الرقمية وزيادة خطر الإصابة بعجز في الذاكرة القصيرة المدى والانتباه والوظائف الإدراكية. تعفن الأدمغة وفي دراسة جديدة نُشرت في مجلّة (سلوك الإنسان الطبيعي)، أجراها علماء أعصاب من جامعة بايلور وكلية ديل الطبية بجامعة تكساس في أوستن، تكشف أن التكنولوجيا الرقمية ترتبط في الواقع بازدياد التدهور المعرفي. واعتمادًا على هذه الدراسة، قال مايكل سكولين: "تتنبَّأ فرضية (الخرف الرقمي) بأن التعرض للتكنولوجيا الرقمية طوال العمر سيؤدي إلى تدهور القدرات الإدراكية." على العكس من ذلك، تتحدى نتائج الدراسة هذه الفرضية، وتشير بدلًا من ذلك، إلى أن التفاعل مع التكنولوجيا الرقمية يعزز المرونة الإدراكية لدى هؤلاء البالغين. بمراجعة أكثر من 136 دراسة، ببيانات شملت أكثر من 400,000 بالغ، ودراسات طولية بمتوسط 6 سنوات من بيانات المتابعة، وجد سكولين أدلّة دامغة على أن استخدام التكنولوجيا الرقمية يرتبط بنتائج أفضل للشيخوخة الإدراكية، بدلًا من الضرر. وعلى الرغم من الحديث عن الضرر الذي قد يلحق بالأطفال، إلا أن سكولين يذهب بعيدًا في دراسة كبار السن، إذ يؤكد أنك "إذا كنت تفعل ذلك لسنوات وكنت منخرطًا فيه بجدية، حتى لو كنت قد تشعر بالإحباط، فقد يكون ذلك علامة على أنك تُمرّن عقلك. تتيح التكنولوجيا - أيضًا- التواصل والمشاركة بشكل غير مسبوق، ما يُوسع فرص التواصل، كما تُساعد مكالمات الفيديو والبريد الإلكتروني وتطبيقات المراسلة في الحفاظ على الشبكات الاجتماعية، ولاسيما للأشخاص الذين لا يرون أفراد عائلاتهم بانتظام." موضحًا: "الآن يُمكنك التواصل مع العائلات عبر الأجيال. لا يُمكنك التحدث معهم فحسب، بل يُمكنك رؤيتهم أيضًا. يُمكنك مشاركة الصور وتبادل رسائل البريد الإلكتروني، وذلك كله في ثانية أو أقل. وهذا يعني أن هناك فرصة أكبر لتقليل الشعور بالوحدة." وبالتالي فهو عامل جيد للأداء الإدراكي لدى كبار السن، إذ يُوفر رابطًاً بين انخفاض العزلة عن التقنيات الرقمية وانخفاض مخاطر الإصابة بالخرف.