أحمد جعفر
تراجعُ حيازة العراق السندات الأميركية إلى أقل من 30 مليار دولار، خلال عام واحد، أثار تساؤلات في الأوساط الاقتصادية حول دلالاته وانعكاساته. فهل يعكس هذا التراجع فتورًا في العلاقات العراقية–الأميركية، أم أنه يأتي في إطار سياسة مالية مقصودة تستهدف إدارة المخاطر وتنويع الاحتياطيات؟
لا يمكن النظر إلى تراجع استثمارات العراق في سندات الخزانة الأميركية بمعزل عن ستراتيجية أوسع يتبناها البنك المركزي العراقي، تقوم على إعادة هيكلة مكونات الاحتياطي الرسمي، بما يحقق التوازن بين الأمان والسيولة، وأيضا الحماية من تقلبات الأسواق العالمية.
من جهة أخرى، فإن احتياطي العراق من الذهب بلغ اليوم قرابة 163 طنًا، ما يشكل قفزة ملحوظة جعلت العراق يحتل المرتبة الثلاثين عالميًا، والثانية عربيًا، في قائمة حائزي الذهب، بحسب بيانات مجلس الذهب العالمي.
يأتي هذا التطور ضمن احتياطي أجنبي إجمالي يقترب من 100 مليار دولار، يتوزع بين عملات رئيسة مثل الدولار واليورو واليوان الصيني والجنيه الإسترليني والين الياباني، إلى جانب الذهب. خيار ستراتيجي
إن هذا التوجه نحو الذهب لا يعكس مجرد خيار تقني في إدارة الاحتياطيات، بل يمثل خيارًا ستراتيجيًا يهدف إلى تقليل الارتباط المفرط بالدولار والسندات الأميركية، وتعزيز عنصر الاستقرار في مواجهة الصدمات الخارجية، سواء تلك المرتبطة بتقلبات أسعار الفائدة أو بالتوترات الجيوسياسية.
صحيح أن العراق خرج من قائمة العشرين الكبار في حيازة السندات الأميركية، بعد أن تراجعت استثماراته من 40.8 مليار دولار في 2023 إلى أقل من 30 مليار دولار في 2024، لكن ذلك لا يعني تراجعًا في العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة. فالعلاقات بين بغداد وواشنطن معقدة ومتشابكة، وتشمل ملفات الطاقة، الاستثمارات النفطية، التحويلات المالية، التعاون المصرفي، وحتى الاستقرار الأمني والسياسي.
ملاذ آمن من الخطأ إذن اختزال هذه العلاقة بمؤشر استثماري واحد، لأن العراق يظل بحاجة إلى دور الولايات المتحدة في إدارة تدفقات الدولار وتسهيل التجارة الخارجية، كما أن الشركات الأميركية ما تزال شريكًا أساسيًا في قطاع الطاقة العراقي.
السياسة المالية الرشيدة تقتضي عدم وضع جميع البيض في سلة واحدة. فالسندات الأميركية، بالرغم من كونها من أكثر الأدوات المالية أمانًا وسيولة، تظل عرضة لتقلبات أسعار الفائدة والتوترات في سوق الدين الأميركي. أما الذهب، فرغم محدودية عوائده المباشرة، فإنه يمثل ملاذًا آمنًا يحافظ على القيمة في أوقات الأزمات.
احتياجات متنوعة من هنا، يمكن القول إن العراق لا ينأى بنفسه عن النظام المالي الأميركي، بل يعيد صياغة مزيج احتياطياته بما يحقق له الاستقرار ويقلل من المخاطر، مستفيدًا من فوائض النفط التي تسمح بتكوين احتياطيات قوية ومتنوعة.
إن قراءة تراجع حيازة العراق من السندات الأميركية خارج سياقها الاقتصادي قد تؤدي إلى استنتاجات مضللة. فالعراق لم يتراجع عن شراكته الاقتصادية مع الولايات المتحدة، بل اختار أن يعزز ستراتيجيته في تنويع الأصول، ليوازن بين أدوات الدين الأميركي والذهب وسلة من العملات العالمية.